وإذا روعي حظ النفس ، فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل ، فله أن لا يمكنها من حظها ، وأن يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام ـ بناء على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ ، فلا يكون إذا منهيا ـ على ذلك التقدير ـ فكما يجب على الإنسان حق لغيره ما دام طالبا له ، وله الخيرة في ترك الطلب به فيرتفع الوجوب ، كذلك جاء النهي حفظا على حظوظ النفس ، فإذا أسقطها صاحبها زال النهي ، ورجع العمل إلى أصل الندب.
والجواب : أن حظوظ النفوس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال : إنه من حقوق الله على العباد ، وقد يقال : إنه من حقوق العباد ، فلا ينهض ما قلتم ، إذ ليس للمكلف خيرة فيه ، فكما أنه متعبد بالرفق بغيره كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «إن لنفسك عليك حقا» (١) إلى آخر الحديث. فقرن حق النفس بحق الغير في الطلب في قوله : «فأعط كل ذي حق حقه» (٢) ثم جعل ذلك حقا من الحقوق.
ولا يطلق هذا اللفظ إلا على ما كان لازما ، ويدل عليه أنه لا يحل للإنسان أن يبيح لنفسه ولا لغيره دمه ، ولا قطع طرف من أطرافه ، ولا إيلامه بشيء من الآلام ، ومن فعل ذلك أثم واستحق العقاب ، وهو ظاهر.
وإن قلنا : إنه من حق العبد ، وراجع إلى خيرته ، فليس ذلك على الإطلاق ، إذ قد تبين في الأصول أن حقوق العباد ليست مجردة من حق الله.
والدليل على ذلك ـ فيما نحن فيه ـ أنه لو كان إلى خيرتنا بإطلاق لم يقع النهي فيه علينا ، بل كنا نخير فيه ابتداء ، وإلى ذلك (؟) فإنه لو كان بخيرة المكلف محضا لجاز للناذر العبادة أن يتركها متى شاء ويفعلها متى شاء.
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأدب ، باب : صنع الطعام والتكلف للضيف (الحديث : ٦١٣٩) ، وأخرجه الترمذي في كتاب : الزهد ، باب : أعط كل ذي حق حقه (الحديث : ٢٤١٥).
(٢) تقدم تخريجه في الحديث الذي قبله.