تعالى ـ إذ يكون المطلوب مندوبا ، لكنه لا يعمل به إلا بوقوعه في ممنوع ، فالمندوب ساقط عنه بلا إشكال ، كالمندوب للصدقة على المحتاج لا مال بيده إلا مال الغير ، فلا يجوز له العمل بالندب ؛ لأنه يقع بسببه في التصرف في مال الغير بغير إذنه ، وذلك لا يجوز فهو كالفاقد لما يتصدق به ، وكالقادم على مريضه المشرف ، أو دفن ميت يخاف تغييره بتركه ، ثم يقوم يصلي نافلة ، والمتزوج لا يجد إلا مالا حراما ، وأشباه ذلك.
وقد يكون المطلوب واجبا إلا أن وقوعه فيه يدخله في مكروه ، وهذا غير معتد به ، لأن القيام بالواجب آكد ، أو يوقعه في ممنوع ، فهذا هو الذي يتعارض على الحقيقة ، إلا أن الواجبات ليست على وزان واحد كما أن المحرمات كذلك ، فلا بد من الموازنة ، فإن ترجح جانب الواجب صار المحرم في حكم العفو ، أو في حكم التلافي إن كان مما تتلافى مفسدته ، وإن ترجح جانب المحرم سقط حكم الواجب ، أو طلب بالتلافي ، وإن تعادلا في نظر المجتهد فهو مجال نظر المجتهدين ، والأولى ـ عند جماعة ـ رعاية جانب المحرم لأن درء المفاسد آكد من جلب المصالح ، فإذا كانت العزلة مؤدية إلى السلامة فهي الأولى في أزمنة الفتن ، والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا ، وضابطها ما صد عن طاعة الله ، ومثل هذا يجري بين المندوب والمكروه ، وبين المكروهين.
وإن كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجمعيات والجماعات ، والتعاون على الطاعات وأشباه ذلك فإنها أيضا سلامة من جهة أخرى ، ويقع التوازن بين المأمورات والمنهيات ، وكذلك النكاح ، إذا أدى إلى العمل بالمعاصي ولم يكن في تركه معصية كان تركه أولى.
ومن أمثلة ذلك ـ غير أنه مشكل ـ ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إلى حبيب بن مسلمة أنه قال لمعن بن ثور : هل تدري لم اتخذت النصارى الديارات؟ قال معن : ولم؟ قال : إنه لما أحدث الملوك البدع ، وضيعوا أمر النبيين ، وأكلوا الخنازير ، اعتزلوهم في الديارات وتركوهم وما ابتدعوا ، فتخلوا للعبادة ، قال حبيب لمعن : فهل لك؟ ... قال : ليس بيوم ذلك.
فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع في ديننا كذلك ، ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم بالبدع وغلبة الأهواء على حد ما شرع في ديننا ، لا أن نفس ما فعلت النصارى