كسبك ، مما هو تكليف في حقك ، ومن جملة ما توكل لك فيه أن لا تدخل نفسك في عمل تحرج بسببه حالا ومآلا.
وقد فسر التبتل بأنه الإخلاص ، وهو قول مجاهد والضحاك.
وقال قتادة : أخلص له العبادة والدعوة ، فعلى هذا التفسير لا تعلق فيها لمورد السؤال.
وإذا تقرر هذا فالسياحة واتخاذ الصوامع وسكنى الجبال والكهوف إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان ، بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس : لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم ، فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية ، غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز ، أو النقل العرفي الذي لم يجر عليه معتاد اللغة ، فلا تدخل في مقتضى قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) (١) لا في الاسم ولا في المعنى.
وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان ، فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح ، بل هو مما لا يجوز ، لأنه كالشرع بغير شريعة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فلا ينتظمه معنى قوله صلىاللهعليهوسلم : «من رغب عن سنتي فليس مني» (٢).
وأما ما ذكره الغزالي وغيره من تفضيله العزلة على المخالطة ، وترجيح الغربة على اتخاذ أهل عند اعتوار العوارض ، فذلك يستمد من أصل آخر لا من هنا.
وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادرا على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل لها من وقوعه في منهي عنه أو لا ، فإن كان قادرا في مجاري العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم ، فلا إشكال في كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حدّ ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن ، وإن لم يقدر على ذلك إلا بوقوعه في مكروه أو محرم ، ففي بقاء الطلب هنا تفصيل ـ بحسب ما يظهر من كلام أبي حامد رحمهالله
__________________
(١) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.
(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.