شرعنا ، لما تقدم من الأدلة على نسخها ، كانت لعارض أو لغير عارض ، إذ لا رهبانية في الإسلام ، وقد ردّ صلىاللهعليهوسلم التبتل حسبما تقدم.
وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع وعلى حدّ ما انقطع إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو المخاطب بقوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) فهذا هو الذي نحن في تقريره وأنه السنة المتبعة والهدي الصالح والصراط المستقيم ، وليس في كلام زيد بن أسلم وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى ، لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها ، بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية.
واجعل سير السلف الصالح مرآة لك تنظر فيها معنى التبتل على وجه الاقتداء برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلقد كانوا رضي الله تعالى عنهم مكتسبين للمال به فيما أبيح لهم منفقين له حيث ندبوا لم يتعلق بقلوبهم منه شيء ، إذا عنّ لهم أمر أو نهي ، بل قدموا أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم الباطلة على وجه لم يخل بحظوظهم فيه ، وهو التوسط الذي تقدم ذكره.
ثم ندبهم الشارع إلى اتخاذ الأهل والولد فبادروا إلى الامتثال ، ولم يقولوا : هو شاغل لنا عما أمرنا به ، لأن هذا القول مشعر بالغفلة عن معنى التكليف به ، فإن الأصل الشرعي أن كل مطلوب هو من جملة ما يتعبد به إلى الله تعالى ويتقرب به إليه ، فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك ، والعادات كلها إذا قصد بها امتثال أمر الله عبادات ؛ إلا أنه إذا لم يقصد بها ذلك القصد ، ويجيء بها نحو الحظ مجردا ، فإذ ذاك لا تقع متعبدا بها ، ولا مثابا عليها ، وإن صح وقوعها شرعا.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فهموا هذا المعنى ولا يمكن مع فهمهم أن تتعارض الأوامر في حقهم ولا في حق من فهم منها ما فهموا منها. فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل في الجريان على السنة ، وكذلك كلام الحسن وغيره في تفسير الآية صحيح إذا أخذ هذا المأخذ ، أي : اتبع الهدى واتبع أمر ربك فإنه العليم بما يصلح لك والقائم على تدبيرك ، ولذلك قال على أثرها : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (١) أي : بك ، وإنه وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك ، فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت
__________________
(١) سورة : المزمل ، الآية : ٩.