لاحتمالها في أنفسها. وهذه المسألة مذكورة على وجهها في كتاب (الموافقات).
ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شيء من غير استثناء ، فهو من قبيل التشديد. ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها؟ فلو كانت مخالفتها برّا لشرع ، ولندب الناس إلى تركه ، فلم يكن مباحا ، بل مندوب الترك أو مكروه الفعل.
وأيضا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابا أو ندبا أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور ، لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور ، كما جعل في الأوامر إذا امتثلت وفي النواهي إذا اجتنبت أجورا منتظرة ولو شاء لم يفعل ، وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت جزاء على خلاف الأول ، ليكون جميع ذلك منهضا لعزائم المكلفين في الامتثال ، حتى إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة في أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة ، والأنوار الشارحة للصدور ، ما لا يعد له من لذات الدنيا شيء ، حتى يكون سببا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها ، فيخف على العامل العمل حتى يتحمل منه ما لم يكن قادرا قبل على تحمله إلا بالمشقة المنهي عنها ، فإذا سقطت سقط النهي.
بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذات مختلفات الألوان ، وللأشربة كذلك ، وللوقوع الموضوع سببا لاكتساب العيال ـ وهو أشد تعبا عن النفس ـ لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب ، إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن نفس المتناول ، كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل ، والتقدم على سائر الناس في الأمور العظائم وهي أيضا تقتضي لذات تستصغر في جنبها لذات الدنيا.
وإذا كان كذلك ، فأين هذا الموضع الكريم من الرب اللطيف الخبير؟ فمن يأتي متعبدا بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب الموصلة إلى محبته ، فيأخذ بالأشق والأصعب ، ويجعله هو السلم الموصل والطريق الأخص هل هذا كله إلا غاية في الجهالة ، وتلف في تيه الضلالة؟ عفانا الله من ذلك بفضله فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديدا على هذا السبيل ، أو يظهر منها تنطع أو تكلف فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح ، أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء ، فإن