ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (١) ، لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح ، بدليل ما تقدم ، فإذا الاقتصار على البشيع في المأكل من غير عذر تنطع ، وقد مرّ ما فيه في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (٢) الآية.
ومن ذلك الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة ، فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم ، وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه.
وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أغد بي على أخي عاصم. قال : ما باله؟ قال : لبس العباء يريد النسك. فقال علي رضي الله عنه : عليّ به. فأتي به مؤتزرا بعباءة ، مرتديا بالأخرى ، شعث الرأس واللحية ، فعبس في وجهه وقال : ويحك! أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك ، أما سمعت الله يقول في كتابه : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) إلى قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٣)؟ أفترى الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثبتهم عليه؟ وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول. قال عاصم : فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك ، قال : ويحك! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس.
فتأملوا كيف لم يطالب الله العباد بترك الملذوذات! وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها ؛ فالمتحرّي للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي مفتات على الشارع وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات من هذه الجهة ، وإنما امتنعوا منه لعارض شرعي يشهد الدليل باعتباره ، كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده ، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع ، أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه ، وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها ،
__________________
(١) سورة : الأحقاف ، الآية : ٢٠.
(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.
(٣) سورة : الرحمن ، الآيات : ١٠ ـ ٢٢.