كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (١) فصار متبعا لهواه ، ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام : «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات» (٢) الحديث.
من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببا لمحو الخطايا ورفع الدرجات ، ففيه دليل على أن الإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ، ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها ، لأنا نقول : لا دليل في الحديث على ما قلتم ، وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ، ففيه أمر زائد ، كالرجل يجد ماء باردا في زمان الشتاء ولا يجده سخنا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ.
وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه ، بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد ، ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه وهي قطعية وخبر الواحد ظني ، فلا تعارض بينهما للاتفاق على تقديم القطعي ، ومثل الحديث قول الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) (٣) الآية.
ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه ، فهو من النمط المذكور فوقه ، لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف ، وهو أيضا مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام : «إن لنفسك عليك حقّا» (٤) وقد كان النبي صلىاللهعليهوسلم يأكل الطيب إذا وجده ، وكان يحب الحلواء والعسل ، ويعجبه لحم الذراع ، ويستعذب له الماء ، فأين التشديد من هذا؟
__________________
(١) سورة : النساء ، الآية : ٢٩.
(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الطهارة ، باب : فضل إسباغ الوضوء (الحديث : ٢٥١). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : قصر الصلاة في السفر ، باب : انتظار الصلاة والمشي إليها (الحديث : ١٠ / ١٦١). وأخرجه الترمذي في كتاب : الطهارة ، باب : ما جاء في إسباغ الوضوء (الحديث : ٥١). وأخرجه النسائي في كتاب : الطهارة ، باب : فضل إسباغ الوضوء (الأحاديث : ١٠ / ٨٩ ، ٩٠).
(٣) سورة : التوبة ، الآية : ١٢٠.
(٤) تقدم تخريجه ص : ٢٦٢ ، الحاشية : ١.