الشافي المعافي ، ولا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب ، لأنه عزوجل رءوف رحيم به ، بل لأنه المنتقم الشديد البطش القهار ، فعند ما يغفر سبحانه للعاصي بدعاء الشفيع فلأن رحمته سبقت غضبه لمقتضيات في نفس المشفوع له ، وليس من حقنا البحث عنها ، فقد يرحم عزوجل لنية المرء لا لعمله ، فموضوع الشفاعة مستثنى عن قانون العقاب الذي يتناول المجرمين الذين قطعوا علاقاتهم الروحية بالله وبرسوله وأولياء النعم عليهمالسلام ، فقانون العقاب سار على كل العصاة إلا البعض من عبيده ، وهل يحق لنا أن نسأله عزوجل : لم غفرت لبعض دون بعض؟ كلا (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء / ٢٤).
فالشفاعة فرع الاعتقاد بالله وبما أنزله على رسوله الأمين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فهذا الاعتقاد هو المصحح للشفاعة والموجب للمغفرة بدعاء الشفيع ، والشاهد على ما قلنا قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء / ٢٩) ، فأثبت الشفاعة على من ارتضى ، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه كما في قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طه / ١١٠) ، ففهمنا أن المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم ، فبذا تكون هذه الآية موضّحة لآيات الجزاء على السعي والعمل ، أو مخصصة لها بمعنى أن الله يجازي على السعي إلا فئة معينة يجازيها لاعتقادها الصحيح. قال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٦) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٧) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (مريم / ٨٤ ـ ٨٦) ، «فهو يملك الشفاعة (أي المصدر المبني للمفعول) وليس كل مجرم بكافر محتوم له النار ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٥) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (طه / ٧٦) ؛ فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن ، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحا ، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنّه لم يعمل صالحا وهو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦١) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس / ٦١ ـ ٦٢) ، فقوله تعالى : (وَأَنِ اعْبُدُونِي) عهد بمعنى الأمر وقوله تعالى : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة. فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم ، ثم ينجون منها