والمحاورات ، وهم لم ينطقوا بهذه اللغة ، وإنّما نطقوا بمعانيها بلغتهم ، فحكاه الله تعالى باللغة العربية وعفتها وقدسها.
وهذا مزيل العجب من نطق الهدهد بذلك الكلام المرتّب ؛ لأنّه لا يمتنع أن يكون ما نطق به بعينه ، وإنّما نطق بماله معناه.
فإن قيل : فقد رجعتم في الجوابين معا عن مطلق القرآن ؛ لأنّ حمل القول المحكي على أنّ المراد به ما ظهر من العلامات والدلالات ، على ما أنشدتموه من الشعر مجاز غير حقيقة ، وكذلك إضافة القول المترتّب إلى من لم يقله من ترتيبه ، وإنّما قال ما له معناه أيضا مجاز ، فقد هربتم من مجاز إلى مجاز ، من أنّكم امتنعتم من أن تسمّوا هدهدا عاقلا كاملا بمخالفة اللغة ، وأنّه عدول عن مقتضاها ، فما أجبتم به أيضا بهذه الصفة.
قلنا : الفرق بين الأمرين واضح ؛ فإنّ العادة قد جرت للعرب بما ذكرناه في الجواب الأوّل من المجاز ، وهو في كلامهم وأشعارهم ظاهر شائع ، حتى كاد يلحق بالحقيقة ، وما جرت عادتهم باسم الهدهد وما أشبهه من البهائم شخصا عاقلا مكلّفا على سبيل الإفادة ولا التلقيب ، فعدلنا عن مجاز [غير] معهود ولا مألوف إلى مجاز معهود مألوف.
وأمّا الجواب الثاني فلا نسلم أنّه مجاز ، ولا فيه من الاستعارة ؛ لأنّ من حكى معاني كلام غيره بلغة أخرى ، أو على ترتيب آخر بعد أن لا يتجاوز تلك المعاني ولا يتعداها ، وإن عبّر عنها بغير تلك العبارة لا يقول أحد : انّه متجوز ولا مستعير ، فبان الفرق بين الموضعين.
فإن قيل : قد شبهتم شيئا وبما لا يشبهه ؛ لأن القائل :
امتلأ الحوض وقال قطني |
|
مهلا رويدا قد ملأت بطني |
إنّما مراده امتلاء حتى لو كان ممن يقول لقال كذا ، وكذلك الجبل إنّما حكي عنه ما لو كان قائلا لقاله.
وقوله :
وشكى إليّ بعبرة وتحمحم