وتأوّل قوم هذه الآية على أنّ المراد من اختاره الله تعالى للتكليف ، وتوريث الكتاب من العقلاء البالغين ، ثمّ قسّمهم الأقسام التي تليق بهم ، من غير أن يكون المراد بالآية الأنبياء عليهمالسلام.
وهذا الجواب يفسد ، لأنّ الله تعالى يقول : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، ومن اصطفاه الله واختاره واجتناه بالإطلاق لا يكون إلّا ممدوحا معظّما ، فكيف يكون فيهم من يستحقّ الذمّ والعقاب؟ ومن يختار الله تكليفه شيئا مخصوصا لا يقال بالإطلاق إنّ الله تعالى اصطفاه. والمعتزلة أبدا تنكر على المرجئة تأويلهم قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) ، على أنّ المراد من ارتضى الشفاعة فيه ، ويقولون : من ارتضى شيئا يتعلّق به لا يوصف بأنّه مرتضى على الإطلاق ، فكيف يثبتونه هاهنا.
ووجدت أبا قاسم البلخيّ يقول في كتابه تفسير القرآن : «إنّه تعالى أراد العقلاء البالغين ويجوز أن يكونوا عند الاصطفاء أخيارا أتقياء ثمّ ظلم بعضهم نفسه» ؛ فيكون كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) (٢) ؛ وهو في وقت الارتداد غير مؤمن. كذلك يكون في حال ظلمه نفسه ليس من المصطفين». قال : «ويجوز أيضا أن يكون فيهم من ظلم نفسه ثمّ تاب وأصلح ؛ ويكون قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي منهم من كان قد ظلم نفسه ؛ ليس أنّه في هذا الوقت ظالم لها».
هذه ألفاظه بعينها حكيناها عنه ؛ وهذا فاسد ؛ لأنّ من كان منهم ظالما فاعلا للقبيح لا يوصفون على الإطلاق بأنّ الله تعالى اصطفاهم. فهذا الوصف يقتضي أن تكون الجماعة أخيارا. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) بخلاف هذا ؛ لأنّ وصفهم بأنّهم آمنوا في الماضي لا يمنع من الردّه في المستقبل ؛ وقوله تعالى : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) يمنع أن يكون فيهم من ليست هذه صفته.
__________________
(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨.
(٢) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.