وليس لهم أن يقولوا : إنّما لم تكن شافعين فيه صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان شافعا فينا لأجل رتبته علينا. وذلك أن العقاب على ضربين : ضرب يعتبر فيه الرتبة كالأمر والنهي ، والضرب الآخر لا يعتبر فيه رتبة كالخبر. وما اعتبرت فيه الرتبة إنّما يعتبر بين المخاطب والمخاطب دون من يتعلّق الخطاب به. ألا ترى أن الأمر إنّما يعتبر فيه الرتبة بين الآمر والمأمور ، دون المأمور فيه ؛ لأن العالي الرتبة إذا قال لمن هو دونه : «ألق الأمير» كان كقوله : «ألق الحارس» ولا يختلف كونه أمرا باختلاف حالتي المأمور فيه ، والشفاعة ممّا يعتبر فيه الرتبة كالأمر ، لكنّها معتبرة بين الشافع والمشفوع إليه.
فإذا قيل لنا : أليس لا يقال شفع الحارس إلى الأمير ، وهذا يدلّ على اعتبار الرتبة في المشفوع فيه.
قلنا : إنّما لا يقال ذلك ؛ لأن شفاعة الحارس لم تجر العادة بأن تؤثر في إسقاط ضرر عن الأمير ، فلهذا لا يقال ذلك. فلو فرضنا أن الخليفة وجد على بعض أمرائه وأراد عقابه ، وأظهر أنه لا يسقط العقاب عنه إلّا أن شفع فيه بعض الحرّاس لسمّينا سؤال هذا الحارس شفاعة ، والحال هذه ، وان كنّا لا نسمّي قول الحارس للأمير : «افعل كذا» أمرا في موضع من المواضع ، فبان الفرق بين الأمرين وبين ما ذكرناه : انه كما لا يقال شفع الحارس في الأمير لا يقال سأل الحارس في إسقاط ضرر عن الأمير ، فلو كان إطلاق اللفظ الأوّل لم يجز للرتبة لجاز الثاني ؛ لأن كلّ لفظ يطلق للرتبة أطلق ما في معناه ؛ لأنه لا يقال : «أمر الوضيع الرفيع» ويقال : «سأله وطلب إليه» ، فعلم أنه إنّما لم يجز «شفع الحارس في الأمير» كما ذكرناه أن العادة لم تجر بأن يرجى بشفاعته سقوط ضرر عن الأمير ، ولهذا لم يجز ما في معناه وان لم يكن بلفظه.
وممّا يوضح ما قدمناه : أن كلّ كلام اقتضى الرتبة لم يدخل بين الإنسان ونفسه ، ألا ترى أنه لا يقال : «أمر نفسه ونهاها» ، وقد يقال : «شفع لنفسه وفي حاجة نفسه» ، فلو اقتضت الشفاعة الرتبة في المشفوع فيه لم يجز ذلك.