فإن قيل : مع نفيكم التحابط كيف قولكم فيمن كفر بعد إيمان أو آمن بعد كفر؟ قلنا : نجوّز أن يتلو الإيمان الكفر ، ولا نجوّز أن يكفر المؤمن جملة ، وفي المرجئة من جوز أن يكفر ، لكنّه لا بدّ بعد ذلك من أن يؤمن ويوافي بإيمانه ؛ والصحيح الأوّل.
وإذا وقع الإيمان بعد الكفر ، فإنّ الله تعالى يغفر عقاب الكفر تفضّلا ، ولو شاء يؤاخذ به ، لكن السمع منع من ذلك.
وإنّما قلنا : إن المؤمن لا بدّ من أن يوافي بإيمانه ، أن الإجماع واقع على أن الإيمان يستحقّ به الثواب الدائم ، فلو جاز أن يكفر المؤمن كفرا يوافى به لاستحق فاعله الثواب والعقاب الدائمين ؛ لإجماعهم أيضا على أن الكفر الموافى به يستحقّ عليه العقاب الدائم ، والإجماع يمنع من استحقاق الأمرين على سبيل الدوام.
وأيضا ، فإن التحابط إذا بطل واجتمع الاستحقاق ان الدائمان فلا بدّ إذا فعل المستحقّ منهما من أن يتلو الثواب العقاب والعقاب الثواب ، واجتمعت الأمّة على أن الثواب في الآخرة لا يقطع ولا يتخلله عقاب.
فإذا قيل : كيف تدّعون الإجماع في دوام المستحقّ من الثواب على الإيمان ، وفي الناس من يقول : إنه لا يستحقّ على الله تعالى شيء ، وفيهم من يشترط في استحقاقه الثواب بالإيمان الموافاة ، كما شرطتم ذلك في الكفر.
قلنا : أمّا من نفى أن يستحقّ على الله تعالى شيء من المجبّرة ، أو من نفى استحقاق الثواب من جهة العدول من البغداديين ، فهم معنا مجمعون على أن الثواب إذا لم يحبطه فاعله ، فلا بدّ من أن يفعل به ويوصل إليه ، فلو جعلنا مكان قولنا إنه يستحقّ الثواب أنه لا بدّ من أن يفعل به الثواب الدائم متى لم يحبطه زالت الشبهة.
على أن البغداديين يعترفون بالاستحقاق ، وإنّما يضيفونه إلى الحكمة والجود ، فما خالفوا في أصل الاستحقاق ، والمجبّرة تنفي الاستحقاق لكلّ شيء