وأيضا فلو عاد الاستثناء إلى المشفوع فيه لوجب أن يكون على غير هذه الصيغة فيقول : «إلّا فيمن شهد بالحقّ» وإذا قال : «إلّا من شهد بالحقّ» كان ذلك بأن يرجع إلى الشافع أولى ؛ لأنّه أليق باللفظ ، لأنّا إذا أردنا أن نستثني من جماعة لا يشفعون قلنا : هؤلاء لا يشفعون إلّا من كان بصفة كذا ؛ وإذا كان الاستثناء ممّن يشفع فيه قلنا : لا يشفعون إلّا فيمن صفته كذا.
وأيضا فعلى الوجه الأوّل وقد تقدّم عموم ظاهر في اللفظة يجوز أن يستثنى منه وهو قوله تعالى : (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) وما جرى ذكر المشفوع فيه عموما يستثنى بعض.
فإن قيل : الشفاعة لفظ جنس ، يقتضي العموم.
قلنا : قد بيّنّا في غير موضع أنّ ألفاظ الجنس لا تقتضي الاستغراق ، وضربنا المثل بمن يقول : هذه أيّام أكل اللحم ، وزمان لبس الجباب ، فإنّه يقتضي الجنس من غير استغراق. وإن توهّم خصوص أو عموم فخطؤهما لا يعقل.
فإن قيل : أيّ فائدة في قوله تعالى (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وبأيّ شيء يتعلّق علمهم.
قلنا : ليس كلّ من شهد بالحقّ يكون عالما ؛ لأنّ المقلّد والمبخّت ربّما شهد بالحقّ على وجه لا ينفع ؛ وإنّما لا ينفع ذلك من العلم فكأنّه تعالى قال (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) صحّة ما شهدوا به.
فإن قيل : إذا كان المستثنى هم الأنبياء والملائكة فهؤلاء لا يشهدون بالحقّ إلّا مع العلم.
قلنا : ذلك صحيح إلّا أنّ الاستثناء لمّا تناول في اللفظة من كان يصفه ، وكان مجرّد هذه اللفظة لا ينفع في المعنى المقصود إلّا مشروطا بالعلم وجب اشتراط العلم ؛ ليعلم افتقاد تلك الصفة فيمن كانت إليه ؛ وهذا واضح.
فإن قيل : هذا الوجهان اللّذان ذكرتموهما ، ورجّحتم أحدهما يقتضيان مشاركة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم في الشفاعة للمذنبين ؛ ومن مذهب المسلمين أنّه ينفرد بالشفاعة.