ولم يثبت بهذا الكلام في أخلاقهم فحشا أصلا وجزعا غير سيّء ، وإنّما نفي الفحش والجزع على كلّ حال ، ولو لا ذلك لكان هاجيا لهم ولم يكن مادحا.
وقال الفرزدق :
ولم تأت غير أهلها بالذي أتت |
|
به جعفرا يوم الهضيبات عيرها (١) |
أتتهم بتمر لم يكن هجرية (٢) |
|
ولا حنطة الشام المزيت خميرها (٣) |
فقوله «لم يكن هجرية» أي لم يحمل التمر الذي يكون كثير في هجر (٤) ، ولم يرد بباقي البيت أنّ هناك حنطة ليس في خميرها زيت ، بل أراد بها لم يحمل تمرا ولا حنطة ، ثم وصف الحنطة بأنّ الزيت يجعل في خميرها.
ونظائر هذا الباب أكثر من أن تحصى.
فعلى ما ذكرناه لا ينكر أن يريد تعالى : انّا فضلناهم على جميع من خلقنا وهم كثير ، فجرى ذكر الكثرة على سبيل الوصف المعلّق لا على وجه التخصيص وليس لأحد أن يخبر بقوله : «فعل كذا وكذا كثير من الناس» على سبيل التخصيص دون العموم.
وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٥) وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٦) ، وذلك أنّا لم نقل : إنّ هذه اللفظة في كلّ موضع تستعمل بمعنى واحد ، بل الوجه في استعمالها يختلف ، وربّما أريد بها التخصيص وربّما أريد ما ذكرناه ممّا تقدّم ، وإنّما يرجع في ذلك إمّا إلى الوضع أو إلى الدلالة تدلّ على المعنى المقصود ، وإنّما أردنا الردّ على من ادّعى أنّها تقتضي التخصيص لا محالة ، فدفعناه عن ذلك بما أوردناه.
__________________
(١) كذا في الديوان ، وفى الاصل : به جعفر القرم يوم الهضاب عيرها.
(٢) كذا في الاصل ، وفى الديوان : أتتهم بعير لم تكن هجرية.
(٣) ديوان الفرذوق : ١ / ٣٦٨.
(٤) هجرى مدينة ، هي قاعدة البحرين ، وقيل ناحيه البحرين كلها هجر (معجم البلدان ٥ / ٣٩٣).
(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١١٩.
(٦) سورة المؤمنون ، الآية : ٣٣.