ويرد عليه :
أوّلاً : أنّ القول بكون حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كلام شعري لا دليل عليه ، بل هي عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى كما عرفت بيانه في محلّه ، وأمّا قضيّة سراية القبح والحسن فليست من جهة الفناء بل هي ناشئة من كثرة الاستعمال وحصول الانس أو المنافرة بالنسبة إلى المعنى ، ولذا لا يحسّ متعلّم اللّغة الجديدة قبحاً ولا حسناً في الألفاظ لعدم حصول كثرة الاستعمال والانس بالنسبة إليه.
ثانياً : سلّمنا كون اللفظ فانياً في المعنى لكن إنّما يستلزم المحال فيما إذا تحقّق اللحاظان في آن واحد ، وأمّا ملاحظة المعنيين بلحاظين مستقلّين في آنين مختلفين قبل وقوع الاستعمال ثمّ استعمال اللفظ فيهما ثانياً فلا مانع منه ولا يلزم منه محذور ولا حاجة إلى لحاظ المعنيين في آنٍ واحد ، أي لا دليل على لزوم وحدة آن اللحاظ في الاستعمال.
وثالثاً : أنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه ، ولا ينبغي الإشكال في وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد في كلمات الفصحاء والبلغاء ، كما يقال في جواب من شكى وجعاً في عينه الباكية وجفاف عينه الجارية : « أصلح الله عينك » ويراد منه كلا المعنيين ، بل لا يخفى لطفه وأنّه يستحسنه الطبع والوجدان اللغوي ، كما لا إشكال في أن يقول من دخل على زيد في داره ورأى جوده وسخائه مضافاً إلى كثرة رماده : « أنت كثير الرماد » بمعنيين فيريد المعنى الحقيقي والمعنى الكنائي معاً في استعمال واحد ، وكقول الشارع في مدح النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله في شعر لطيف له :
المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى |
|
والمشتكى ظمئاً والمبتغى ديناً |
يأتون سدّته من كلّ ناحية |
|
ويستفيدون من نعمائه عيناً |
فاستعمل لفظ العين في معانٍ أربعة : الشمس والعين الباكية والعين الجارية والذهب (١).
__________________
(١) ومن طريف ما ينبغي ذكره في هذا المجال ما أنشده الشاعر الفارسي وقال :
« از در بخشندگى وبنده نوازى ـ مرغ هوا را نصيب ماهى دريا » حيث يمكن أن يراد منه خمس معانٍ مختلفة في نفس الوقت ، كلّ واحد أحسن من غيره : أحدها : أن يراد كون بعض الطير نصيباً لأسماك البحر ( كما نقل أنّ هناك سمكة تشبه بالسفرة المبسوطة على وجه الماء ) ثانيها : أنّ بعض الأسماك يكون نصيباً لطير الهواء. ثالثها :