وثانيهما : ما لا يعدّ نفس العمل تعبّداً أو عبوديّة وإن كان قربيّاً لا يسقط أمره إلاّبقصد الطاعة كالزّكاة والخمس ، ثمّ قال : وهذان الأخيران وإن كان يعتبر فيهما قصد التقرّب لكن لا يلزم أن يكونا عبادة بالمعنى الكذكور إذ كلّ فعل قربى لا ينطبق عليه عنوان العبوديّة فإطاعة الولد لوالده والرعايا للملك لا تعدّ عبوديّة لهما بل طاعة ، كما أنّ ستر العورة بقصد امتثال الأمر وانقاذ الغريق كذلك ليسا عبوديّة له تعالى بل طاعة لأمره وبعثه ، وحينئذٍ يستبدل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي فيقال : الواجب امّا توصّلي أو تقرّبي ، والأخير إمّا تعبّدي أو غير تعبّدي ... إلى أن قال : فالأولى دفعاً للالتباس حذف عنوان التعبّديّة وإقامة التقرّب موضعها (١). ( انتهى ).
أقول : قد قرّر في محلّه أنّ لبعض الأعمال القربيّة كالزّكاة والخمس حيثيتين : حيثيّة تسمّى بحقّ الله وحيثية يعبّر عنها بحقّ الناس ، أمّا الحيثية الثانيّة فهو ما يوجب تعلّق حقّ الفقراء بأموال المكلّفين وهو يؤخذ منهم ولو جبراً سواء قصد القربة بذلك أو لم يقصدها ، وأمّا الحيثية الاولى فهي ما يوجب تلوّن العمل بلون قربى إلهي ويجعله كسائر الواجبات التعبّديّة كتحمّل الجوع في شهر رمضان أو الهدية والوقوف بمنى وعرفات أو السعي بين الصفا والمروة في أيّام الحجّ ، فكما أنّ اشتراط قصد القربة هناك علامة لجعلها ووضعها للخضوع والعبوديّة بحيث لولاها فسد العمل كذلك هنا من دون أي فرق بينهما في هذه الجهة.
هذا بالنسبة إلى ما ذكره من مثال الخمس والزّكاة ، وأمّا بالنسبة إلى سائر ما ذكره من الأمثلة كستر العورة امتثالاً لأمر الله وانقاذ الغريق ، كذلك ، فمن الواضح أنّه لا يفسد أمثال هذه الامور بترك قصد القربة ، فلو أنقذ الغريق من دون هذا القصد فقد أتى بما وجب عليه وإن لم يستحقّ الثواب ، وهذا أي عدم الاشتراط بالقربة دليل على أنّه لم يجعل عبادة في الشرع المقدّس ، وبعبارة اخرى : العبادة كما ذكره القوم على قسمين : العبادة بالمعنى الأخصّ وهي ما يشترط فيه قصد القربة وبدونها تكون فاسدة ، والعبادة بالمعنى الأعمّ وهي ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يعتبر في صحّتها ذلك ، فلو ترك القربة فيها لم يستحقّ الثواب وإن كان عمله صحيحاً بسبب كونه توصّلياً ، والمراد من التعبّدي في المقام هو القسم الأوّل ، أي ما يشترط فيه قصد القربة لا ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يشترط بها.
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١١١ ، طبع مهر.