ثانياً : أنّ وظيفة العبد إنّما هو تحصيل غرض المولى من المأمور به لا قصد التقرّب مثلاً حيث إنّ العقل يحكم بوجوب رفع عطش المولى مثلاً على أيّ حال : فلو اهرق الماء لا بدّ من إتيان ماء آخر مرّة اخرى وهكذا حتّى يرفع عطش المولى مع أنّه قد امتثل الأمر وأتى بالماء ، فإنّ هذا هو مقتضى حقّ الطاعة والعبوديّة.
وبعبارة اخرى : إنّ غرض المولى من أمره حصوله على ما هو موجود في المأمور به من المصلحة لا تحريك العبد إلى المأمور به بقصد امتثال أمره فحسب ، إلاّ إذا ثبت كون الغرض منه هو العبوديّة والتقرّب إليه.
الأمر الثاني قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) ببيان أنّها تدلّ على أنّ جميع الأوامر صدرت من جانب الباري تعالى للعبادة مخلصاً والاخلاص عبارة عن قصد التقرّب في العمل ، ولازمه أن تكون جميع الأوامر الشرعيّة تعبّديّة إلاّما خرج بالدليل.
والجواب عنه واضح : لأنّ الآية إنّما تكون في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد كما يشهد عليه بعض الآيات السابقة عليها وهو قوله تعالى : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )(٢) ، وكذلك بعض الآيات اللاّحقة وهي قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها )(٣).
بل وهكذا ما ورد في نفس الآية من التعبير بالحنفاء حيث إنّ الحنيف هو المائل من الباطل إلى الحقّ ، فيطلق على الإنسان الموحّد الذي لا يعبد إلاّ الله ، ولذلك وصفهم بعد ذلك بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة اللّذين هما من لوازم التوحيد بالله ومن أوصاف العباد الموحّدين ، على أيّ حال : إنّ الآية في مقابل المشركين وأهل الكتاب تدلّ على انحصار العبادة بالله تعالى وأنّ الناس امروا لأن لا يعبدوا إلاّ الله تعالى لا أنّ جميع الأوامر الشرعيّة الصادرة من جانب الله تعالى تكون تعبّديّة ، وأين هذا من ذاك.
ويشهد عليه أيضاً ذهاب المفسّرين ظاهراً على هذا المعنى ، فهذا هو المحقّق الطبرسي رحمهالله في
__________________
(١) سورة البيّنة : الآية ٥.
(٢) سورة البيّنة : الآية ١.
(٣) سورة البيّنة : الآية ٦.