قلنا : لا بدّ للحصول على الجواب الصحيح لهذا السؤال من الرجوع إلى تاريخ تدوين العلوم البشريّة ( لا إلى حكم العقل لعدم كون المسألة عقليّة كما لا يخفى ) فنقول : إذا رجعنا إلى تاريخ تدوين العلوم نجد بساطتها واختصارها في بدو تولّدها كما يظهر من ملاحظة فلسفة افلاطون مثلاً فإنّها متشكّلة من مسائل طفيفة في أبواب الالهيّات ومسائل في الطبيعيّات ومسائل اخرى في الفلكيّات ومباحث في سياسة المدن اندرج جميعها في علم واحد وكتاب واحد ، ثمّ بعد توسّعها واحتياجها إلى تجزئة بعضها عن بعض قصد موسّعوها ومدوّنوها في الأدوار اللاّحقة إلى تدوين المسائل التي توجد علاقة خاصّة بينها علماً على حدة وتأليفها بعنوان علم مستقلّ ، وكان المعيار في هذه العلاقة :
تارةً : وحدة الموضوع ، كعلم معرفة الأرض في الطبيعيّات الذي يكون الموضوع في جميع مسائله شيئاً واحداً وهو الأرض وحالاتها مع أنّ الأغراض المترتّبة على مسائله مختلفة فإنّ له تأثيراً في مقاصد شتّى كما لا يخفى. أو كعلم النجوم الذي يكون الموضوع فيه أمراً واحداً وهو النجوم ، ولا يخفى أيضاً أنّ الأغراض فيه متعدّدة تظهر في باب التوحيد والعبادات ونظام المجتمع الإنساني وغيرها ، أو كعلم الكيمياء وهو علم تراكيب الأشياء وتجزئتها ، وموضوعها هو الأجسام من حيث التجزئة والتركيب ، مع أنّ فائدته تظهر في علم الطبّ والصنائع المختلفة.
واخرى : وحدة المحمول كعلم الفقه لأنّ المحمول في جميع مسائله سواء كانت تكليفيّة أو وضعية هو حكم من الأحكام الشرعيّة وليس المعيار فيه وحدة الموضوع لأنّ الموضوع فيه ليس شيئاً واحداً فإنّ الموضوع لعلم الفقه ليس خصوص أفعال المكلّفين لعدم شمولها للأحكام الوضعيّة ، وارجاعها إلى أفعال المكلّفين بالواسطة لا يخلو من التكلّف.
وثالثة : وحدة الغرض خاصّة ، كعلم المنطق لأنّ الغرض الحاصل من مسائله هو الحصول على التفكّر الصحيح والصيانة عن الخطأ ، ولعلّ من هذا القسم علم الاصول لوحدة الغرض في جميع قضاياه ، وهو تحصيل القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها.
ويمكن أن يكون ملاك الوحدة اثنين من هذه الامور الثلاثة أو جميعها كما لا يخفى.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على أنّ لكلّ علم موضوعاً واحداً حتّى نحتاج إلى البحث عن حدوده وخصوصّياته ، كما ظهر ضمناً أنّ الملاك في تمايز العلوم ليس أمراً واحداً بل إنّه يختلف باختلاف أنواعها كما سيأتي بيانه في محلّه تفصيلاً إن شاء الله تعالى.
ثمّ إنّه لو سلّمنا حاجة كلّ علم إلى موضوع خاصّ فما هو الموضوع وما تعريفه؟
ذكر كثير منهم أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة كما حكيناه عن