بقي هنا امور :
الأمر الأوّل : ربّما يتوهّم من قولنا بأنّ الأوامر تتعلّق بالطبائع أنّ المتعلّق هو الطبيعة من حيث هي هي ، فيعترض عليه بأنّ الطبيعة من حيث هي هي ليست إلاّهي ، لا مطلوبة ولا مبغوضة ، ومقتضاه كون الطبيعة في حدّ ذاتها خاليّة عن القيود فإنّ كلّ شيء في مرتبة ذاته ليس إلاّنفس ذلك الشيء لا غير.
وبعبارة اخرى : المراد من الماهية إنّما هو نفس مفهوم الإنسان مثلاً وهو ليس إلاّنفسه ، وليس مفهوم الشجر والحجر وغيرهما ، أي أنّ كلّ ماهية يكون لها مرتبة خاصّة لا سبيل لغيرها إليها.
وبعبارة ثالثة : ما هو متعلّق الأوامر؟ فإن كان هو الماهية من حيث هي هي فإنّها ليست إلاّ هي لا محبوبة ولا مبغوضة ، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد الوجود فإنّه تحصيل للحاصل ، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد العدم فهو محال.
واجيب عنه : بأنّ متعلّق الطلب إنّما هو إيجاد الماهية في الخارج ، وبتعبير آخر : إنّ الوجود يتصوّر على قسمين : الوجود بالمعنى المصدري والوجود بالمعنى اسم المصدري ، والمتعلّق للأوامر إنّما هو الأوّل أي الإخراج من كتم العدم إلى عالم الوجود أو انقلاب العدم إلى الوجود ، والتحصيل للحاصل إنّما هو الوجود بمعنى اسم المصدري لا المصدر.
توضيح ذلك : الطلب التشريعي يكون بمنزلة الطلب التكويني ، فكما أنّ المولى في طلبه التكويني للماء مثلاً لا يطلب الماهية من حيث هي هي لأنّها لا ترفع العطش ولا يطلب السقي الموجود بل يطلب إيجاد السقي في الخارج ، كذلك في طلبه التشريعي من العبد ، فيطلب الإيجاد ، أي المعنى المصدري لا السقي الحاصل بمعنى اسم المصدر ولا الماهية من حيث هي هي.
نعم هذا كلّه في الطلب ، وأمّا هيئة الأمر فقد يقال بأنّ متعلّقها إنّما هو نفس الطبيعة لا وجودها ، لأنّ نفس الهيئة متضمّنة لمعنى الوجود ، أي أنّها بنفسها بمعنى طلب الوجود ، ومع ذلك لا معنى لأن يكون الوجود جزءً لمتعلّقها ، أي جزءً لمادّة الأمر.
وبعبارة اخرى : إنّ الوجود جزء للهيئة لا المادّة والمتعلّق.
ولكن الإنصاف أنّ هيئة الأمر أيضاً وضعت لطلب الوجود لأنّها عبارة عن البعث إلى الفعل ، ويكون بمنزلة البعث التكويني ، فكما أنّ البعث التكويني يتعلّق بإيجاد المطلوب فكذلك