وأمّا دليل المنسوخ فقد يقال بدلالته على بقاء الجواز ببيان أنّ الوجوب الذي يكون مدلولاً له ـ مركّب من أمرين : طلب الفعل والمنع من الترك ، والمنفي بدليل الناسخ إنّما هو الجزء الثاني أي المنع من الترك ، وأمّا الجزء الأوّل وهو طلب الفعل واستحبابه فهو باقٍ على حاله.
ولكن اجيب عنه : بأنّ الوجوب ليس أمراً مركّباً بل أنّ حقيقته أمر بسيط ، والتعبير بتركيبه من طلب الفعل والمنع عن الترك تعبير تسامحي ، ولو سلّمنا كونه مركّباً منهما إلاّ أنّ أوّلهما بمنزلة الجنس وثانيهما بمنزلة الفصل ، وقد قرّر في محلّه أنّ الجنس والفصل من الأجزاء العقليّة الانتزاعيّة لا الحقيقية الخارجيّة حيث إنّ الجنس عبارة عن ماهية مبهمة لا محصّلة وإنّما يحصّل في الخارج بالفصل ، ومن الواضح أنّه لا يبقى بزوال الفصل حينئذٍ تحصّل للجنس في الخارج.
وأمّا الدليل من الخارج فلا يتصوّر في البين دليل إلاّ أصالة الاستصحاب ، أي استصحاب كلّي الجواز ، وقد اجيب عنه أيضاً بأنّ الاستصحاب في ما نحن فيه يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي ( نظير ما إذا كان كلّي الإنسان موجوداً في الدار مثلاً ضمن وجود زيد وبعد خروجه عن الدار شككنا في بقاء كلّي الإنسان بدخول عمرو ) وقد ثبت في محلّه عدم حجّيته.
نعم ، يمكن أن يقال أنّه قد استثنى من القسم الثالث صورة ما إذا كان الفرد الزائل والفرد المحتمل وجوده من مراحل شيء واحد في نظر العرف كالسواد الشديد والسواد الخفيف ، حيث إنّهما وإن كانا متباينين بالدقّة العقليّة إلاّ أنّهما عند العرف يعدّان من المراحل الوجوديّة لشيء واحد ، فيستصحب كلّي السواد إذا علمنا بزوال الفرد الشديد واحتملنا بقاء الفرد الخفيف ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الوجوب والاستحباب ( أو الجواز ) من المراحل الوجوديّة لحكم واحد عند العرف ، وهذا لا ينافي بساطة معنى الوجوب كما لا يخفى.
ولكن اجيب عنه أيضاً بأنّه خلاف ما نجده بوجداننا العرفي حيث إنّ الأحكام الخمسة متباينات عند العرف ، والميزان في باب الاستصحاب والحكم بتعدّد المتيقّن والمشكوك أو اتّحادهما إنّما هو العرف.
بقي هنا أمران :
الأمر الأوّل : ربّما يقاس ما نحن فيه بما ثبت في محلّه من أنّه إذا دلّت رواية على وجوب