شيء ورواية اخرى على جواز تركه كان مقتضى الجمع العرفي بينهما رفع اليد من ظهور الأولى في الوجوب وحملها على الاستحباب ، فليكن المقام أيضاً من هذا القبيل ، فيحمل دليل المنسوخ على الاستحباب.
ولكنّه قياس مع الفارق ، حيث إنّ الكلام هناك أنّ الدليل الدالّ على جواز الترك يكون قرينة عرفيّة على كون المراد من الدليل الأوّل من أوّل الأمر هو الاستحباب مع أنّ المدّعى في المقام كون الحكم من أوّل الأمر إلى زمان ورود دليل الناسخ هو الوجوب لا غير.
الأمر الثاني : قال بعض الأعلام في المحاضرات : « إنّ دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمّت فإنّما تتمّ في المركّبات الحقيقيّة كالانسان والحيوان وما شاكلهما ، وأمّا في البسائط الخارجيّة فلا تتمّ أصلاً ولا سيّما في الأحكام الشرعيّة التي هي امور اعتباريّة محضة وتكون من أبسط البسائط ، ضرورة أنّ حقيقتها ليست إلاّ اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه ، ومن هنا قلنا أنّ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شيء منها مجعولاً شرعياً ، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار ، غاية الأمر أنّ نصب الشارع قرينة على الترخيص في الترك فينتزع العقل منه الاستحباب وإن لم ينصب قرينة عليه فينتزع منه الوجوب ، وعلى ضوء هذا فلا يعقل القول بأنّ المرفوع بدليل الناسخ إنّما هو فصل الوجوب دون جنسه ضرورة أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله » (١).
أقول : في كلامه رحمهالله مواقع للنظر :
أوّلاً : فلأنّ ما ذكره بالإضافة إلى حقيقة الأحكام الشرعيّة من « أنّ حقيقتها ليست إلاّ اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه » يستلزم عدم الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية مثل الديون ، حيث إنّه لا إشكال في أنّ مثل هذا الحكم الوضعي جعل في الذمّة ، فلو كان الحكم التكليفي أيضاً جعلاً للفعل مثلاً على الذمّة فما هو الفرق بين النوعين من الحكم؟
وإن شئت قلت : المتبادر من هيئة « افعل » في قوله « صلّ » مثلاً ومن هيئة « لا تفعل » في
__________________
(١) المحاضرات : ج ٤ ، ص ٢٣.