ولكن المحصّل من مجموع كلامه كما لا يخفى على من راجعه ودقّق النظر فيه هو القول الخامس الذي ستأتي الإشارة إليه من أنّ الحروف تدلّ على معانٍ غير مستقلّة في الذهن والخارج.
القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله وهو عكس الأوّل ، وحاصله إنّه لا فرق بين الحروف والأسماء في كون معاني كليهما استقلاليّة ، فلا فرق بين « من » مثلاً وكلمة « الابتداء » في دلالة كليهما على الابتداء.
إن قلت : فلماذا لا يمكن استعمال أحدهما في موضع الآخر؟
قلت : إنّه ناشٍ من شرط الواضع لا إنّه مأخوذ في الموضوع له ، فإنّ الواضع اعتبر لزوم استعمال « من » فيما إذا لم يكن معنى الابتداء ملحوظاً استقلاليّاً وشرط في كلمة الابتداء استعمالها فيما إذا لم يكن المعنى آلياً.
القول الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله وحاصله : إنّ معاني الحروف كلّها إيجاديّة يوجد بها الربط بين أجزاء الكلام ، فإنّ « من » في جملة « سرت من البصرة إلى الكوفة » مثلاً توجد الربط بين كلمتي « البصرة » و « سرت ».
والظاهر من كلامه إنّها ليست حاكيات عن معانيها بل وضعت لإنشائها ، فإنّ « في » مثلاً لا تحكي عن الظرفيّة بل توجدها في قولك « زيد في الدار ».
القول الرابع : ما أفاده بعض الأعلام ، وملخّصه : إنّ المعاني الحرفيّة وضعت لتضييق المعاني الاسمية ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة كما سيأتي توضيحه (١).
القول الخامس : قول كثير من المحقّقين. وهو أنّها وضعت للحكاية عن النسب الخارجيّة والمفاهيم غير المستقلّة وهو الأظهر من الجميع.
توضيحه : أنّ المفاهيم والمعاني على قسمين : مستقلّة وغير مستقلّة ، فالمستقلّة نحو « مفهوم السير » وغير المستقلّة مثل ابتدائه وانتهائه ، وكما نحتاج في بيان المعاني المستقلّة والحكاية عنها إلى ألفاظ ، كذلك في المعاني غير المستقلّة ، فمثلاً كما نحتاج في بيان معنى « زيد » و « قائم » إلى لفظ زيد قائم ، كذلك نحتاج في بيان نسبة زيد إلى قائم وصدور القيام عن زيد إلى وضع لفظ ، وهو
__________________
(١) راجع أجود التقريرات : ص ١٨ ـ ١٩.