وقطع النسل والحرث لأنّ جلب المصالح الموجودة فيه من طريق إيجابه ( وهي أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يظهر دينه تعالى على الدين كلّه ) أهمّ من دفع تلك المفاسد ، ونظير هذا المورد جميع الأحكام الشرعيّة التي يوجب إتيانها تحمّل رياضات شاقّة وأضرار بدنيّة وماليّة.
إن قلت : فما هو المقصود ممّا ورد في بعض الرّوايات من أنّ اجتناب السيّئات أولى من كسب الحسنات؟
قلنا : أنّ مضمون هذا القبيل من الرّوايات نفس مضمون ما ورد فيها أيضاً من أنّه « لا قربة للنوافل إذا أضرّت بالفرائض » فيكون موردها ما إذا لم تصل الحسنات إلى حدّ اللزوم ، ويشهد على هذا المعنى نفس هذه الموارد التي قدّم الشارع فيها جلب المنفعة على دفع المفسدة.
وأمّا عقلاً فلأنّ العقل ينظر إلى ميزان الأهمّية من دون فرق بين المصلحة والمفسدة ، فإن رأى أنّ درجة أهمّية المفسدة أكثر يقدّمها على المصلحة وإن رأى أنّ درجة أهميّة المنفعة أكثر يقدّمها على المفسدة ولا خصوصيّة عنده للمفسدة من حيث هي مفسدة.
وأمّا عقلائيّاً فلأنّا نشاهدهم أنّهم تارةً يقدّمون المفسدة على المصلحة واخرى بالعكس فيما إذا استهدفوا مصلحة عظيمة فإنّهم مثلاً في الصناعات والتجارات يصرفون ثروة عظيمة بعنوان رأس المال ويستقبلون المضارّ الكثيرة لمنافع هامّة محتملة ، ويمكن التمثيل لهذا أيضاً بعمليّة الجراحة في يومنا هذا الذي يوجب مضارّاً كثيرة ولكن فيه منافع أكثر منها.
وبالجملة أنّه ليس هناك قاعدة عامّة بعنوان أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة.
وأظنّ أنّ هذا القبيل من القضايا التي ظهرت في الألسن بشكل ضابطة كلّية كانت صادقة في الخارج بصورة قضيّة جزئيّة أو غالبية ثمّ جرت على نحو قاعدة كلّية نظير ما اشتهر بينهم أيضاً « أنّ الأقرب يمنع الأبعد » مع أنّ القضيّة في كثير من الموارد تكون بالعكس ، وهكذا في كثير من الأمثال المتداولة والجارية بين الخاصّ والعامّ.
ثمّ إنّه أورد على هذا الوجه أيضاً في المحاضرات : تارةً بأنّه على فرض تسليم كبريها ليس المقام من صغرياتها جزماً ، بداهة أنّه على القول بالامتناع ووحدة المجتمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة أو بالعكس ، فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيها ، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه ... وموضوع هذه القاعدة ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك ، ولا يتمكّن المكلّف من