الأمر الأوّل في منشأ دلالة التبادر على الوضع.
وهو أمر واضح ، لأنّ منشأ ظهور لفظ في معنى ومنشأ تبادر ذلك المعنى من ذلك اللفظ لا يخلو من أحد الأمرين : إمّا الوضع أو القرينة ، فإذا انتفت القرينة وعلم أنّ المعنى فهم من حاق اللفظ كما هو المفروض في المقام يستكشف منه وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى.
الأمر الثاني : فيما قد يقال من أنّ كون التبادر علامة للحقيقة يستلزم الدور المحال ، لأنّ التبادر يتوقّف على العلم بالوضع ، والمفروض أنّ العلم بالوضع أيضاً يتوقّف على التبادر وهذا دور واضح.
واجيب عن هذا بوجوه عديدة :
أوّلها : قضيّة الإجمال والتفصيل. وتوضيحها : إنّ العلم الذي يتوقّف عليه التبادر هو العلم الإجمالي الارتكازي ، والعلم المتوقّف على التبادر هو العلم التفصيلي ، وبعبارة اخرى : يوجد في حاق ذهن الإنسان ومرتكز أهل اللّغة معنى إجمالي يتبدّل إلى العلم التفصيلي بالتبادر.
ثمّ إنّ هذه القضيّة ( الإجمال والتفصيل ) قضيّة ينحلّ بها كثير من المعضلات ، منها إشكال الدور المعروف الذي أُورد على الشكل الأوّل في المنطق من ناحية منكري الاستدلال والبرهان ، وهو أنّه ( القياس والبرهان ) لا يوجب لنا علماً جديداً لأنّ جميع اشكاله ترجع إلى الشكل الأوّل ، وهو دوري ، لأنّ من شرائطه كلّية الكبرى ، وهي تتوقّف على شمول الكبرى للنتيجة وكونها معلومة ضمن الكبرى ، والحال أنّ العلم بالنتيجة أيضاً يتوقّف على كلّية الكبرى ، وهذا دور ظاهر.
وقد أجاب عنه الشّيخ الرئيس بعين ما ذكرناه في التبادر وبيانه : إنّ كلّية الكبرى تتوقّف على العلم الإجمالي بالنتيجة ، وأمّا ما يتوقّف على القياس فهو عبارة عن العلم التفصيلي بالنتيجة.
ثانيها : سلّمنا ، ولكنّه مختصّ بما إذا إتّحد العالم والمستعلم ولا يتصوّر بالنسبة إلى الجاهل باللغة المستعلم من التبادر عند أهلها ، لأنّه يصير عالماً بالوضع بتبادر المعنى من اللفظ إلى ذهن العالم بالوضع ، فعلمه بالوضع يتوقّف على التبادر إلى ذهن العالم ، وأمّا التبادر إلى ذهن العالم فلا يتوقّف على علم الجاهل بل يتوقّف على علم نفسه ، وقد عرفت أنّ موارد التبادر في الغالب هو من هذا القبيل أي تعدّد العالم والمستعلم.