ثالثها : ما حكي عن بعض المحقّقين ، وحاصله إنّه لا مانع من كون كلا العلمين ( المتوقّف على التبادر والمتوقّف عليه التبادر ) تفصيلياً ، ولا دور في البين ، لأنّهما فردان متشخّصان من العلم لحصولهما في زمانين ، ويكفي في ارتفاع الدور تغاير العلمين في التشخّص (١).
ولنعم ما اتجيب عنه من أنّه مع وجود العلم التفصيلي بالوضع قبل التبادر يكون تحصيل علم تفصيلي آخر تحصيلاً للحاصل ، إلاّ أن يعرض عليه النسيان ومع عروض النسيان يصير العلم مجملاً ومرتكزاً ونحتاج في تبديله بالعلم التفصيلي إلى التبادر.
الأمر الثالث : أنّه يفهم استناد التبادر إلى حاق اللفظ من كثرة استعمال اللفظ في المعنى وكثرة تبادره منه ( وإن لم يبلغ حدّ الاطّراد ) حتّى يعلم إنّه لا تعتمد الدلالة على القرينة ، ولا يمكن الاعتماد على أصل عدم القرينة لكونه من الاصول العقلائيّة التي تجري لتعيين مراد المتكلّم بعد العلم بالوضع وبعد العلم بالمعنى الحقيقي والمجازي ، لا عند الشكّ في الموضوع له.
الأمر الرابع : قال المحقّق العراقي رحمهالله في المقام ما حاصله : إنّ هذا البحث إنّما يكون منتجاً بناءً على كون مدار حجّية اللفظ على أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة تعبّداً وأنّ اللفظ حجّة في المعنى الحقيقي ولو لم ينعقد للفظ ظهور فيه ، لأصالة الحقيقة أو لأصالة عدم القرينة ، إذ حينئذٍ نحتاج إلى معرفة الموضوع له والمعنى الحقيقي بالتبادر وأمثاله ، وأمّا إذا قلنا أنّ اللفظ حجّة في المعنى الظاهر ولو كان ظهوره من جهة القرينة الحافّة به كما هو التحقيق فلا نحتاج إلى معرفة المعنى الموضوع له والحقيقي بالتبادر وأمثاله ، ولا فائدة لهذا البحث (٢).
أقول : يمكن الجواب عنه بأنّه كثيراً ما يكون منشأ الظهور العرفي هو الوضع. أي ينعقد عند العرف للفظ ظهور في معناه الحقيقي ، فإنّا وإن قلنا بكون مدار حجّية اللفظ هو أصالة الظهور لكن حيث إنّ سبب الظهور هو العلم بالوضع فنحتاج في معرفته إلى التبادر وأمثاله ، وبعبارة اخرى : الظهور العرفي لا يكون بلا سبب بل إمّا أن ينشأ من الوضع أو من القرائن ، ومعرفة الموضوع له أحد أسباب الظهور ، فإذا علم الفقيه بالموضوع له يحصل له العلم بما هو الظاهر عند العرف.
الأمر الخامس : « إنّ التبادر ـ كما ذكره بعض الأعلام ـ يثبت كون المعنى حقيقيّاً للفظ وكونه
__________________
(١) حكاه في تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤٠ ، طبع مهر.
(٢) راجع المقالات : ص ٣١.