أعني الفكر والوهم (١) والعقل والحفظ وغير ذلك ، أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اُموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وعليه ، وما أخذه وما أعطى ، وما رأى وما سمع ، وما قال وما قيل له ، ولم يذكر من أحسن إليه ممّن أساء به ، وما نفعه ممّا ضرّه ، ثمّ كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ، ولا يحفظ علما ولو درسه عمره ، ولا يعتقد دينا ، ولا ينتفع بتجربة ، ولا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى ، بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال ، وكيف موقع الواحد منها دون الجميع؟
وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان ، فإنّه لولا النسيان لما سلا (٢) أحد عن مصيبة ، ولا إنقضت له حسرة ، ولا مات له حقد ، ولا إستمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات ، ولا رجا غفلة من سلطان ، ولا فترة من حاسد.
أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان ، وهما مختلفان متضادّان ، وجعل له في كلّ منهما ضرب من المصلحة؟
وما عسى أن يقول الذين قسّموا الأشياء بين خالقين متضادّين في هذه الأشياء المتضادّة المتبائنة وقد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح
__________________
(١) فُسّر الوهم بالقوّة النفسية التي تدرك المعاني غير المحسوسة.
(٢) سَلا عن الشيء : أي نسيه وذهل عن ذكره وطابت نفسه عنه.