أفلا ترى أنّك لا تفتّش شيئا من الخلقة إلاّ وجدته على غاية الصواب والحكمة؟.
انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار؟ فهي لا تفقده ولا هي تجده مجموعا معدّا بل تناله بالحركة والطلب ، وكذلك الخلق كلّه فسبحان من قدّر الرزق كيف قوّته؟ فلم يجعل ممّا لا يقدر عليه إذ جعل للخلق حاجة إليه ، ولم يجعله مبذولاً وينال بالهوينا (١) إذا كان لا صلاح في ذلك فإنّه لو كان يوجد مجموعا معدّا كانت البهائم تتقلّب عليه ولا تنقلع حتّى تبشم (٢) فتهلك ، وكان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر والبطر حتّى يكثر الفساد ويظهر الفواحش.
أعَلِمْتَ ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلاّ بالليل كمثل البوم والهام (٣) والخفّاش؟
قلت : لا يامولاي.
قال : إنّ معاشها من ضروب تنتشر في هذا الجوّ من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب (٤) ، وذلك أنّ هذه الضروب مبثوثة في الجوّ لا يخلو منها موضع.
واعتبر ذلك بأنّك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار إجتمع عليه من هذا شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كلّه إلاّ من القرب؟.
__________________
(١) الهوينا : الرفق والتؤدة.
(٢) البشم : الإتخام من الطعام.
(٣) الهام جمع هامة : نوع من البوم الصغير.
(٤) اليعاسيب جمع يعسوب ، هو : ذكر النحل وأميرها.