سلوك (١) دقائق قد اُلّف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ، ثمّ ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلاً ولا ينشقّ لتداخله الريح فيقلّ الطائر إذا طار ، وترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، وهو القصبة التي هو في وسط الريشة ، وهو مع ذلك أجوف ليخفّ على الطائر ولا يعوقه عن الطيران.
هل رأيت يامفضّل! هذا الطائر الطويل الساقين (٢)؟ وعرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه؟ فإنّه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنّه ربيئة (٣) فوق مَرقَب وهو يتأمّل ما يدبّ في الماء ، فإذا رأى شيئا ممّا يتقوّت به خطا خطوات رقيقا حتّى يتناوله ، ولو كان قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور ويذعر منه فيتفرّق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسد عليه مطلبه.
تأمّل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنّك تجد كلّ طائر طويل الساقين طويل العنق وذلك ليتمكّن من تناول طعمه من الأرض ، ولو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض ، وربّما اُعين مع طول العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولةً له وإمكانا.
__________________
(١) سلوك جمع سلك وهو : الخيط.
(٢) تنطبق هذه الأوصاف على الطائر المائي المعروف بالأنيس.
(٣) الربيئة : العين التي ترقب.