[سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٤] ـ إلى (ما لا يَفْعَلُونَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٦] والابتعاد منهم أولى من الاقتراب ، وقد قيل فيهم : ما ظنّك بقوم الصدق يستحسن إلّا منهم؟ فرفع المنصور رأسه ، وكان محبّا في أهل الأدب والشعر ، وقد اسودّ وجهه ، وظهر فيه الغضب المفرط ، ثم قال : ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه ، ويسيئون الأدب بالحكم فيما لا يدرون ، أيرضى أم يسخط؟ وأنت أيّها المنبعث للشّرّ دون أن يبعث ، قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة ، وحسدك لهم ؛ لأنّ الناس كما قال القائل : [مجزوء الرمل]
من رأى الناس له فض |
|
لا عليهم حسدوه |
وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصّة ، ولسنا إن شاء الله تعالى نبلّغ أحدا غرضه في أحد ، ولو بلّغناكم بلغنا في جانبكم ، وإنك ضربت في حديد بارد ، وأخطأت وجه الصواب ، فزدت بذلك احتقارا وصغارا ، وأني ما أطرقت من كلام الرمادي (١) إنكارا عليه ، بل رأيت كلاما يجلّ عن الأقدار الجليلة ، وتعجّبت من تهدّيه له بسرعة ، واستنباطه له على قلة (٢) من الإحسان الغامر ما لا يستنبطه غيره بالكثير ، والله لو حكّمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجح ما تكلّم به قلبه ذرة ، وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه ، ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منا التغيّر عليهم ، فإنّنا لا نتغيّر عليهم بغضا لهم وانحرافا عنهم ، بل تأديبا وإنكارا ، فإنّا من نريد إبعاده لم نظهر له التغيّر ، بل ننبذه مرّة واحدة ، فإن التغيّر إنما يكون لمن يراد استبقاؤه ، ولو كنت مائل السمع لكلّ أحد منكم في صاحبه لتفرّقتم أيدي سبا ، وجونبت أنا مجانبة الأجرب ، وإني قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي ، فتجنّبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم ، ثم أمر أن يردّ الرمادي وقال له : أعد عليّ كلامك ، فارتاع ، فقال : الأمر على خلاف ما قدرت ، الثواب أولى بكلامك من العقاب ، فسكن لتأنيسه ، وأعاد ما تكلّم به ، فقال المنصور : بلغنا أنّ النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدّرّ لكلام استملحه (٣) منه ، وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك ما هو أنوه وأحسن عائدة ، وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيّش (٤) منه ، ثم ردّ رأسه إلى المتكلّم في شأن الرمادي ، وقد كاد يغوص في الأرض لو وجد لشدّة ما حلّ به ممّا رأى وسمع (٥) وقال : والعجب من قوم
__________________
(١) في ب ، ه : «من خطاب الرمادي».
(٢) في ب ، ه : «على قلته».
(٣) في ب ، ه : «لكلام استحسنه منه».
(٤) في ه : «وموضع ينتعش منه».
(٥) في ه : «عما سمع ورأى».