من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنه القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه (١) وهوله شيئا؟ ولو أنّ حقيرا يخفى عن علم الله تعالى لخفي عنه هذا الحصن! ناهيك عن صخرة حيث لا ماء ولا مرعى ، منقطع عن بلاد الإسلام ، خارج عن سلك النظام ، لا يعبره إلّا لصّ فاجر ، أو قاطع طريق غير متظاهر ، حرّاسه لا يتجاوزون الخمسين ، ولا يرون خبز البر عندهم إلّا في بعض السنين ، باعه أحدهم بعشرين دينارا ، ولعمري إنه لم يغبن في بيعه ولا ربح أرباب ابتياعه ، وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه ، فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل ، حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل (٢)؟
فلمّا وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جوابا منه : وإنّ المذكور ممّن له حرمة قديمة ، تغنيه عن أن يمتّ بسواها ، وخدمة محمود أولاها وأخراها ، ولسنا ممّن اتّسعت مملكته ، وعظمت حضرته ، فنحتاج إلى انتقاء الكتّاب ، والتحفّظ في الخطاب ، وإنما نحن أحلاس ثغور (٣) ، وكتّاب كتائب (٤) لا سطور ، وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم ، فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم ، وله الوفاء الذي تحدّث به فلان وفلان ، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الرّكبان ، وليس ذلك يقدح عندنا فيه ، بل زاده لكونه دالّا على صحّة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه ، انتهى.
ولهذا الكاتب شعر يسقط فيه سقوط الأغبياء ، وقد يتنبّه فيه تنبّه الأذكياء ، فمنه قوله من قصيدة يمدح حريزا المذكور مطلعها : [المتقارب]
يذكّرني بهم العنبر |
|
وظلم ثناياهم سكّر |
إلى أن قال :
ولو لا معاليك يا ذا النّدى |
|
لما كان في الأرض من يشعر |
فلا تنكرنّ زحاما على |
|
ذراك وفي كفّك الكوثر |
ومشى في موكبه وهم في سفر ، وكان في فصل المطر والطين ، فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عكّاشة ، فلمّا أثارت يدا فرسه طينا جاء في عنق أميره ، ففطن لذلك الأمير ، فقال له :
__________________
(١) في ه : «ما زاد على عظمه».
(٢) أراد حرب البسوس التي دارت رحاها بين بكر وتغلب في الجاهلية وبقيت زمنا طويلا.
(٣) أحلاس ثغور : أحلاس : جمع حلس وهو الملازم للشيء والشجاع ، وكلام المعنيين وارد هنا. والثغور :
جمع ثغر وهو المدينة المحصنة على الحدود يرابط بها الجيش تجاه العدو.
(٤) الكتائب : جمع كتيبة ، وهي الفرقة من الجيش.