والمنازه اتّصالها بنهر إشبيلية ، وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد ، وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرّة ، وأنّ جميع أدوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناه عن ذلك ولا منتقد ، ما لم يؤدّ السكر إلى شرّ وعربدة ، وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك ، فلم يستطيعوا إزالته ، وأهله أخفّ الناس أرواحا ، وأطبعهم نوادر ، وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السّبّ ، قد مرنوا على ذلك ، فصار لهم ديدنا حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتا ثقيلا ، وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد بن عباد :
إشبيليا عروس وبعلها عبّاد |
|
وتاجها الشرف وسلكها الواد (١) |
أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عمّ أقطار الأرض خيره ، وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية ، وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها ، وتهمّم سكانها فيها داخلا وخارجا ، إذ هي من تبييضهم لها نجوم في سماء الزيتون.
وقيل لأحد من رأى مصر والشام : أيها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية؟ فقال بعد تفضيل إشبيلية : وشرفها غابة بلا أسد ، ونهرها نيل بلا تمساح. وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها ، وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري ، وهذان الصنفان أجمع المتجوّلون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثل لهما ، وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة (٢) والفنار والزلامي والشقرة والنورة ـ وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه ـ والبوق ، وإن كان جميع هذا موجودا في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد ، وليس في برّ العدوة من هذا شيء إلّا ما جلب إليه من الأندلس ، وحسبهم الدفّ وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر ، وأمّا جواريها ومراكبها برّا وبحرا ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف أخذت من التفضيل بأوفر نصيب ، وأمّا مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليم والليمون والزنبوع وغير ذلك ، وأمّا علماؤها في كل صنف رفيع أو وضيع جدا أو هزلا فأكثر من أن يعدّوا ، وأشهر من أن يذكروا ، وأما ما فيها من الشعراء والوشّاحين والزجّالين فما لو قسموا على برّ العدوة ضاق بهم ، والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم ، وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلّا وقصدي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس ، فما تخلو بلادها من
__________________
(١) في ب : «إشبيليا عروسا».
(٢) في ه : «والكبيرة والفنار».