فإن قيل : إثبات الرسالة لا يتوقف على استحالة الكذب على الله ـ تعالى ـ ليكون دورا ؛ فإنه لا يتوقف إثبات الرسالة على (١) الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق ، أو الكذب ؛ بل إظهار المعجزة على وفق تحديه ينزل منزلة الإنشاء ، وإثبات الرسالة ، وجعله رسولا فى الحال. وذلك كقول القائل لغيره : وكلتك فى أشغالى ، واستنبتك (٢) فى أمورى ، وذلك لا يستدعى تصديقا ولا تكذيبا.
قلنا : فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدى ؛ إذ هو جائز على أصول أصحابنا ؛ لم تكن المعجزة دالة على نبوته ، وإثبات رسالته إجماعا. ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته ؛ لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها ؛ وليس كذلك.
فإن قيل : [إن الإنشاء] (٣) مشروط بالتحدى ؛ فهو بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات ؛ فإن من أنشأ أمرا ، وأثبته ابتداء لغيره لا يتوقف على سابقة الدعوى به لمن أثبت ذلك له ، وبتقدير أن يكون كذلك ؛ ولكن غايته ثبوت رسالته بطريق الإنشاء ، ولا يلزم منه أن يكون صادقا فى كل ما يخبر به ، دون دليل عقلى يدل على صدقه ، فيما يخبر به ، أو تصديق الله ـ تعالى ـ له فى ذلك بالمعجزة ، ولا دليل عقلى يدل على ذلك ، وتصديق الله ـ تعالى ـ له لو توقف على صدق خبره ؛ كان دورا ؛ كما سبق.
غير أن التمسك بمثل هذا المسلك السمعى فى بيان استحالة الكذب فى الكلام اللسانى ، الدال على الكلام النفسانى ؛ صحيح ؛ كما تقدم تقريره. والسؤال الوارد عليه ثمّ منقطع هاهنا ؛ فإن صدق الكلام اللسانى ، وإن توقف على صدق الرسول ؛ فصدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللسانى ؛ بل على الكلام النفسانى ؛ فامتنع الدور الممتنع فيه ؛ والله أعلم.
__________________
(١) فى ب (الاعلى).
(٢) فى ب (واستأذنتك).
(٣) فى أ (لان الأشياء).