قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ* بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (١) ، فرجعوا عن جواب ما ألزموا إلى التقليد ، فقال تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) (٢) ، فأجابوا بمجرد الإنكار ، ركونا إلى ما ذكروا من التقليد لا بجواب السؤال.
فكذلك كانوا مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم ، لأنه خرج عن معتادهم ، وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم ، حتى أرادوا أن يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ، ليوقعوا بينهم وبين المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات ، أو في بعض الأحوال ، أو على بعض الوجوه ، ويقنعوا منه بذلك ، ليقف لهم بتلك الموافقة واهي بنائهم ، فأبى عليه الصلاة والسلام إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب ، وأنزل الله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (٣) إلى آخر السورة ، فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة ، ورموه بسهام القطيعة ، وصار أهل السلم كلهم حربا عليه ، عاد الوليّ الحميم ، عليه كالعذاب الأليم ، فأقربهم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالاته ، كأبي جهل وغيره ، وألصقهم به رحما ، كانوا أقسى قلوبا عليه ، فأي غربة توازي هذه الغربة؟ ومع ذلك فلم يكله الله إلى نفسه ، ولا سلطهم على النّيل من أذاه ، إلا نيل المصلوفين (٤) ، بل حفظه وعصمه ، وتولاه بالرعاية والكلاءة ، حتى بلّغ رسالة ربه.
ثم ما زالت الشريعة في أثناء نزولها ، وعلى توالي تقريرها ، تبعد بين أهلها وبين غيرهم ، وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا ، ولكن على وجه من الحكمة عجيب ، وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأول الأصيل ، ففي العرب نسبتهم إلى أبيهم إبراهيم عليهالسلام ، وفي غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم ، كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٥) ، وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
__________________
(١) سورة : الزخرف ، الآيتان : ٢١ ـ ٢٢.
(٢) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٤.
(٣) سورة : الكافرون ، الآيتان : ١ ـ ٢.
(٤) صلفه صلفا : أبغضه.
(٥) سورة : الأنعام ، الآية : ٩٠.