المحسوس ، ومجاز في الطريق المعنوي ، وضده الضلال ؛ وهو الخروج عن الطريق ومنه البعير الضال ، والشاة الضالة. ورجل ضل عن الطريق إذا خرج عنه ، لأنه التبس عليه الأمر ولم يكن له هاد يهديه ، وهو الدليل.
فصاحب البدعة لما غلب الهوى مع الجهل بطريق السنّة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره ، فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم ، فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة ، كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه ، يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة ، وإن كان بزعمه يتحرى قصدها. فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضلّ في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله ، وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره ، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه ، وأخذ الأدلة بالتبع ، ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر ، فكما تجد فيه نصّا لا يحتمل التأويل تجد فيه الظاهر الذي يحتمله احتمالا مرجوحا حسبما قرره من تقدم في غير هذا العلم ، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ، ويتأول على غير ما قصد فيه ، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها ، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع.
فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنّة ، وأمكن في ضلال البدعة ؛ فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أراد منها.
والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها. قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (١) ، وقال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢). لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح ، والقليل منها كالكثير ، وهو أدل الدليل على اتباع الهوى فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دلّ على أمر بظاهره فهو الحق ؛ فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل ، فكان من حق الظاهر
__________________
(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٦.
(٢) سورة : المدثر ، الآية : ٣١.