في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر ، ونزلت بعكا ، وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكّي ، وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي ، فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين ، فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا ولع بي ، وفيهم ـ لعمر الله ، وإن كانوا على باطل ـ انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر ، فكان لا يفارقني ، ويساومني الجدال ولا يفاترني ، فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعليم من المعصوم بما يطول ذكره.
ومن جملة ذلك أنهم يقولون : إن لله في عباده أسرارا وأحكاما والعقل لا يستقل بدركها ، فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم ، فقلت لهم : أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد؟ فقال لي : «مات» وليس هذا بمذهبه ولكنه تستر معي ، فقلت : هل خلفه أحد؟ فقال : خلفه وصيه علي ، قلت : فهل قضى بالحق وأنفذه؟ قال : لم يتمكن لغلبة المعاند ، قلت : فهل أنفذه حين قدر؟ قال : منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت ، إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى ، فلم يمكن إلا المداراة لئلا تنفتح عليه أبواب الاختلال ، قلت : وهذه المداراة حق أم لا؟ فقال : باطل أباحته الضرورة ، قلت : فأين العصمة؟ إنما نعني العصمة مع القدرة ، قلت : فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا؟ قال : لا ، قلت : فالدين مهمل ، والحق مجهول مخمل؟ قال : سيظهر ، قلت : بمن؟ قال : بالإمام المنتظر ، قلت : لعله الدجال فما بقي أحد إلا ضحك ، وقطعنا الكلام على غرض مني لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده.
ثم قلت : ومن أعجب ما في هذا الكلام أن الكلام أن الإمام إذا أوصى إلى من لا قدرة له فقد ضيع ، فلا عصمة له ، وأعجب منه أن الباري تعالى ـ على مذهبه ـ إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم ، فكأنه ما علمه وما بعثه ، وهذا عجز منه وجور ، لا سيما على مذهبهم.
فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة ، وشاع الحديث ، فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي ؛ فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي وقال : إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك ، فقلت : أنا مشغول ، فقال : هنا موضع مرتب قد جاء إليه ، وهو محرس الطبرانيين ، مسجد في قصر على البحر ، وتحامل عليّ ،