وأما الاختلاف من جهة كونه خارجا على أهل السنّة أو غير خارج : فلأن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليها إثم ، والخارج زاد الخروج على الأئمة ـ وهو موجب للقتل ـ والسعي في الأرض بالفساد ، وإثارة الفتن والحروب ، إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق ، فله من الإثم العظيم أوفر حظّ.
ومثاله قصة الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١) ، وأخبارهم شهيرة.
وقد لا يخرجون هذا الخروج بل يقتصرون على الدّعوة لكن على وجه ادعى إلى الإجابة ، لأن فيه نوعا من الإكراه والإخافة ، فلا هو مجرد دعوة ، ولا هو شق العصا من كل وجه ، وذلك أن يستعين على دعوة بأولي الأمر من الولاة والسلاطين ، فإن الاقتداء هنا أقوى بسبب خوف الولاة في الإيقاع بالآبي سجنا أو ضربا أو قتلا ، كما اتفق لبشر المريسي في زمن المأمون ، ولأحمد بن أبي دؤاد في خلافة الواثق ، وكما اتفق لعلماء المالكية بالأندلس إذ صارت ولايتها للمهديين ، فمزقوا كتب المالكية وسموها كتب الرأي ، ونكلوا بجملة من الفضلاء بسبب أخذهم في الشريعة بمذهب مالك ، وكانوا هم مرتكبين للظاهرية المحضة ، التي هي عند العلماء بدعة ظهرت بعد المائتين من الهجرة ، ويا ليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه! لكنهم تعدوا ذلك إلى أن قالوا برأيهم ، ووضعوا للناس مذاهب لا عهد لهم بها في الشريعة ، وحملوهم عليها طوعا أو كرها ، حتى عم داؤها في الناس ، وثبتت زمانا طويلا ، ثم ذهب منها جملة وبقيت أخرى إلى اليوم ، ولعل الزمان يتسع إلى ذكر جملة منها في أثناء الكتاب بحول الله.
فهذا الوجه ، الوزر فيه أعظم من مجرد الدعوة من وجهين : الأول الإخافة والإكراه بالإسلام والقتل ، والآخر كثرة الداخلين في الدعوة ، لأن الإعذار والإنذار الأخروي قد لا يقوم له كثير من النفوس ، بخلاف الدنيوي. ولأجل ذلك شرعت الحدود والزواجر في
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.