من فتح باب آخر من الفساد ، وهو أن يدخل أهل الإلحاد في القرآن أو في القراءات ما ليس منها فيستعينون بذلك في بث إلحادهم. ألا ترى أنه لما لم يمكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن ، حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
فحقّ ما فعل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لأن له أصلا يشهد له في الجملة ، وهو الأمر بتبليغ الشريعة ، وذلك لا خلاف فيه ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١) ، وأمته مثله ، وفي الحديث : «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (٢) وأشباهه ، والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة لأنه من قبيل المعقول المعنى ، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها ، كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ، إذا لم يعد على الأصل بإبطال كمسألة المصحف ولذلك أجمع عليه السلف الصالح.
وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل ، فقد ثبت في السنة كتابة العلم ، ففي الصحيح قوله صلىاللهعليهوسلم : «اكتبوا لأبي شاه» (٣) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ليس أحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب.
وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كتّاب يكتبون له الوحي وغيره ، منهم عثمان وعلي ومعاوية والمغيرة بن شعبة وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم ، وأيضا فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ ، وخوف اندراس العلم ، كما خيف دروسه حينئذ ، وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم.
وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر لا لكونه بدعة ، فكل من سمى كتب العلم
__________________
(١) سورة : المائدة ، الآية : ٦٧.
(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الحج ، باب : الخطبة أيام منى (الحديث : ٣ / ٤٥٩). وأخرجه مسلم في كتاب : القسامة ، باب : تحريم الدماء (الحديث : ١٦٧٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : الحج ، باب : الأشهر الحرم (الحديث : ١٩٤٧).
(٣) أخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : كتابة العلم (الحديث : ١ / ١٨٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في الرخصة في كتابة العلم (الحديث : ٢٦٧٠).