أن يحمل على نحو ذلك قوله : «ومن سنّ سنّة سيئة» أي من اخترعها. وشمل ما كان منها مخترعا ابتداء من المعاصي كالقتل من أحد ابني آدم ، وما كان مخترعا بحكم الحال ، إذ كانت قبل مهملة متناساة ، فأثارها عمل هذا العامل.
فقد عاد الحديث ـ والحمد لله ـ حجة على أهل البدع من جهة لفظه ، وشرح الأحاديث الأخر له.
وإنما يبقى النظر في قوله : «ومن ابتدع بدعة ضلالة» وإن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما ، والأمر فيه قريب لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوما ، وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول ، فإن الدليل دل على تعطيله في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قول الله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (١) ، ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق ، بالأدلة المتقدمة ، فلا مفهوم أيضا.
والجواب عن الإشكال الثاني : أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة ، لا من قبيل البدعة المحدثة. والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم ، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول ، وإن كان فيها خلاف بينهم ، ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه.
أما جمع المصحف وقصر الناس عليه فهو على الحقيقة من هذا الباب ، إذ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف تسهيلا على العرب المختلفات اللغات ، فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة ؛ إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتح لباب الاختلاف في القرآن ، حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله تعالى : فخاف الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ اختلاف الأمة في ينبوع الملة ، فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه ، واطّرحوا ما سوى ذلك ، علما بأن ما اطرحوه ، مضمن فيما أثبتوه ؛ لأنه من قبيل القراءات التي يؤدى بها القرآن.
ثم ضبطوا ذلك بالرواية حين فسدت الألسنة ؛ ودخل في الإسلام أهل العجمة خوفا
__________________
(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٣٠.