أحبني» (١). ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر ، لأنه صلىاللهعليهوسلم لما مضى على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية ، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله ، فليس معناه من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة.
ونحو هذا الحديث في رقائق ابن المبارك مما يوضح معناه عن حذيفة رضي الله عنه قال : قام سائل على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسأل ، فسكت القوم ، ثم إنّ رجلا أعطاه فأعطاه القوم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من استنّ خيرا فاستنّ به فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن استنّ شرّا فاستنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم» (٢) فإذا قوله : «من سنّ سنة» معناه من عمل بسنة ، لا من اخترع سنة.
والوجه الثاني من وجهي الجواب : أن قوله : «من سنّ سنة حسنة ومن سنّ سنة سيئة» لا يمكن حمله على الاختراع من أصل ، لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف من جهة الشرع ، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع ، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة ، وإنما يقول به المبتدعة ، أعني : التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة ، وما أشبهها من السنن المشروعة. وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي ، كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليهالسلام : «لأنه أول من سنّ القتل» (٣) وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم.
وأما قوله : «من ابتدع بدعة ضلالة» فهو على ظاهره ، لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب ، ويصح
__________________
(١) أخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (الحديث : ٢٦٧٨).
(٢) تقدم تخريجه ص : ١٤٧ ، الحاشية : ٣.
(٣) تقدم تخريجه ص : ١٤٣ ، الحاشية : ٤.