إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (١) فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الأمة أم لا؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، وهذه ثالثة!
ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد! لما علم رسول الله صلىاللهعليهوسلم مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها : اتّسع له عن أن أمسك عنهم أم لا؟ قال أحمد : بل اتّسع له ذلك. فقال الشيخ : وكذلك لأبي بكر؟ وكذلك لعمر؟ وكذلك لعثمان؟ وكذلك لعليّ؟ رحمة الله عليهم. قال : نعم. فصرف وجهه إلى الواثق وقال : يا أمير المؤمنين! إذا لم يتسع لنا ما اتّسع لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولأصحابه فلا وسّع الله علينا ، فقال الواثق : نعم! لا وسّع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا. ثم قال الواثق : اقطعوا قيوده. فلما فكت جاذب عليها. فقال الواثق : دعوه. ثم قال : يا شيخ لم جاذبت عليها؟ قال : لأني عقدت في نيّتي أن أجاذب عليها ، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي وكفي. ثم أقول : يا ربي! سل عبدك : لم قيدني ظلما وارتاع بي أهلي؟ فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر. ثم قال له الواثق : يا شيخ! اجعلني في حلّ. فقال : يا أمير المؤمنين! ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حلّ إعظاما لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولقرابتك منه. فتهلل وجه الواثق وسرّ ؛ ثم قال له : أقم عندي آنس بك. فقال له : مكاني في ذلك الثغر أنفع ، وأنا شيخ كبير ، ولي حاجة. قال : سل ما بدا لك. قال : يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم. قال : قد أذنت لك. وأمر له بجائزة فلم يقبلها ، فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة ، وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها.
فتأملوا هذه الحكاية ففيها عبرة لأولي الألباب ، وانظروا كيف مأخذ الخصوم في إفحامهم لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنّة نبيه صلىاللهعليهوسلم.
ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد ، وهو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض ، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامّها المرتب على خاصّها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر ببيّنها ، إلى ما
__________________
(١) سورة : المائدة ، الآية : ٦٧.