للإنسان. فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها فيه ولا لوم عليه ، إذ لو كان ثمّ لوم أو عتب لم يكن تطوعا ، وهو خلاف الفرض.
والثاني : أن تؤخذ مأخذ الملتزمات ، كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبة من عمل صالح في وقت من الأوقات ، كالتزام قيام حظ من الليل مثلا ، وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص ، كعاشوراء وعرفة ، أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداة والعشي ، وما أشبه ذلك. فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ، لأنه لما نوى الدءوب عليها في الاستطاعة ، أشبهت الواجبات والسنن الراتبة ، كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع لم يصر واجبا إذ تركه أصلا لا حرج فيه في الجملة ، أعني : ترك الالتزام ، ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنها مستحبة في الأصل ، ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات.
وهذا المعنى هو المفهوم من قوله صلىاللهعليهوسلم في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال : «يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان» (١) لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما ، فإنه صلىاللهعليهوسلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ، فلما فاتتاه صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضي الواجب.
فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين ، إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف ، بحسب ما فهمنا من الشرع ، وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير ، وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه ، أو يحرج بالتزامه ، فإن ترك الالتزام إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء ، فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربّه ، والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة ، فصار الإخلال به مكروها.
والدليل على صحة الأخذ بالرفق ، وأنه الأولى والأحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا عتيدا ـ في الكتاب والسنّة (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ
__________________
(١) عزاه في جمع الفوائد (١ / ٢٩٩) للشيخين وأبي داود والنسائي.