والثالث : أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمرا منضبطا بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم ، أو في قوة عزائمهم ، أو في قوة يقينهم ، أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين ، لأن أحدهما أقوى جسما ، أو أقوى عزيمة أو يقينا بالموعود ، والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها ، وتقوى مع ضعفها.
فنحن نقول : كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد فهو منهي عنه ، ولا يشق على عمرو فلا ينهى عنه ، فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقّا عليهم ؛ وإن كان ما هو أقل منه شاقا علينا ، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه ، إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم ، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله.
وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع ، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى بالجميع ، وهو الذي دلت عليه الأدلة ، دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم ، إلا على القليل النادر منهم.
والشاهد لصحة هذا المعنى قوله صلىاللهعليهوسلم : «إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) يريد صلىاللهعليهوسلم أنه لا يشق عليه الوصال ، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق ، فعلى هذا : من رزق أنموذجا مما أعطيه صلىاللهعليهوسلم فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فلا حرج.
وأما رده صلىاللهعليهوسلم على عبد الله بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام ، ولذلك وقع له ما كان متوقعا ، حتى قال : ليتني قبلت رخصة نبي الله صلىاللهعليهوسلم ، ويكون عمل ابن الزبير وابن عمرو غيرهما في الوصال جاريا على أنهم أعطوا حظا مما أعطيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهذا
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ٢٤١ ، الحاشية : ٨.