المقصود هذا المعنى ، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف ؛ فرأى من نفسه أنه لا بدّ لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة ، وأحوال مرتبطة ، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته ، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.
وأيضا فإن النفوس قد تملّ وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة ، فإذا جدّد لها أمر لا تعهده ، حصل بها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول ، ولذلك قالوا : (لكل جديد لذة) بحكم هذا المعنى ، كمن قال : كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور.
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : فيوشك قائل أن يقول ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتتبّعني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة.
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات ، فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية ، كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة.
وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل ، فإنها لا تسمى بدعا على إحدى الطريقتين.
وأما الحد على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله : يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها ، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته. لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات ، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت ، بالعادات فكذلك ، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها.
فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول.