بالاحتجاب عن أبصار الرجال ، والرجال بغض الأبصار ، إلى أشباه ذلك مما عللوا الأمر فيه والنهي بالتذرع لا بغيره.
والنهي أصله أن يقع على المنهي عنه وإن كان معللا ، وصرفه إلى أمر مجاور خلاف أصل الدليل ، فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل ، فكل عبادة نهى عنها فليست بعبادة ، إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها ، فالعامل بها عامل بغير مشروع ، فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعا بها.
لا يقال : إن نفس التعليل يشعر بالمجاورة ، وإن الذي نهي عنه غير الذي أمر به ، وانفكاكهما متصور ، لأنا نقول : قد تقرر أن المجاور إذا صار كالوصف اللازم انتهض النهي عن الجملة لا عن نفس الوصف بانفراده ، وهو مبين في القسم الثاني.
المسلك الثاني : ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه ، ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أكبر الكبائر أن يسبّ الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله! وهل يسبّ الرجل والديه؟ قال : نعم يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه وأمه» ، فجعل سبّ الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبّه لوالديه نفسه ، حتى ترجمه عنها بقوله : «أن يسبّ الرجل والديه» (١) ولم يقل : أن يسبّ الرجل والدي من يسبّ والديه ، أو نحو ذلك ، وهو غاية معنى ما نحن فيه.
ومثله حديث عائشة رضي الله عنها مع أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه ، وقولها : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن لم يبت ، وإنما يكون هذا الوعيد فيمن فعل ما لا يحل له ، لا مما فعله كبيرة حتى ترغب آخرا بالآية : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) (٢).
وهي نازلة في غير العمل بالربا ، فعدت العمل بما يتذرع به إلى الربا بمنزلة العمل
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأدب ، باب : لا يسب الرجل والديه. وأخرجه أحمد في المسند (٢ / ١٦٤ ، ٢١٦). وأخرجه الترمذي في كتاب : البر والصلة ، باب : ما جاء في عقوق الوالدين.
وأخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : في بر الوالدين.
(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢٧٥.