حكى المسعودي وغيره من ذلك أشياء فطالعها من هنالك ، وقد وقع القتل في العرب الجاهلية ولكن على غير هذه الجهة ، وهو قتل الأولاد لشيئين : أحدهما خوف الإملاق ، والآخر دفع العار الذي كان لاحقا لهم بولادة الإناث ، حتى أنزل الله في ذلك قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (١) ، وقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٢) ، وقوله : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) (٣).
وهذا القتل محتمل أن يكون دينا وشرعة ابتدعوها ، ويحتمل أن يكون عادة تعودوها ، بحيث لم يتخذوها شرعة ، إلا أن الله تعالى ذمهم عليها فلا يحكم عليها بالبدعة بل بمجرد المعصية ، فنظرنا هل نجد لأحد المحتملين عاضدا يكون هو الأولى في حمل الآيات عليه؟ فوجدنا قوله سبحانه وتعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) (٤) فإن الآية صرحت أن لهذا التزين سببين : أحدهما الإرداء وهو الإهلاك ، والآخر لبس الدين ، وهو قوله : (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) ولا يكون ذلك إلا بتغيره وتبديله أو الزيادة فيه أو النقصان منه ، وهو الابتداع بلا إشكال ، وإنما كان دينهم أولا دين أبيهم إبراهيم فصار ذلك من جملة ما بدلوا فيه ، كالبحيرة والسائبة ونصب الأصنام وغيرها ، حتى عدّ من جملة دينهم الذي يدينون به.
ويعضده قوله تعالى بعد : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (٥) فنسبهم إلى الافتراء ـ كما ترى ـ والعصيان من حيث هو عصيان لا يكون افتراء ، وإنما يقع الافتراء في نفس التشريع في أن هذا القتل من جملة ما جاء من الدين ، ولذلك قال تعالى على إثر ذلك : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا) (٦) فجعل قتل الأولاد مع تحريم ما أحل الله من جملة الافتراء ، ثم ختم بقوله : (قَدْ ضَلُّوا) وهذه خاصية البدعة
__________________
(١) سورة : الإسراء ، الآية : ٣١.
(٢) سورة : التكوير ، الآيتان : ٨ ـ ٩.
(٣) سورة : النحل ، الآية : ٥٨.
(٤) سورة : الأنعام ، الآية : ١٣٧.
(٥) سورة : الأنعام ، الآية : ١٣٧.
(٦) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٠.