إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار ، إما باعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض ، فالأشد عقابا أكبر مما دونه ، وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة ، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنّة إلى الفاضل والأفضل ، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل ، انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل ، والصغر والكبر ، من باب النسب والإضافات ، فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه.
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر فقال : المرضي عندنا أن كل ذنب كبير وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله ، ولذلك يقال : معصية الله أكبر من معصية العباد ، قولا مطلقا ، إلا وإن عظمت لما ذكرناه ، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها. ثم ذكر معنى ما تقدم ، ولم يوافقه غيره على ما قال وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب (الموافقات). ولكن الظاهر يأبى ذلك ـ حسبما ذكره غيره من العلماء ـ والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات ، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات.
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ، ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت ، بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك ، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها ، بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها ، بل صاحب المعصية متنصل منها ، مقر لله بمخالفته لحكمها.
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة ، والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ، ولذلك قال مالك بن أنس : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) إلى آخر الحكاية ، وقد تقدمت.
ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال : أي فتنة فيها؟ إنما هي أميال أزيدها ،
__________________
(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.