أحدهما : الشريعة ، ولا مرية في أنها علم وحق وهدى ، والآخر الهوى ، وهو المذموم ، لأنه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم ، ولم يجعل ثمّ طريقا ثالثا ، ومن تتبع الآيات ، ألفى ذلك كذلك.
ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله ، كقوله تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) ، وقال بعد ذلك : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٢) ، وقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٣). وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله ، وقال : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (٤).
وهو اتباع الهوى في التشريع ، إذ حقيقته افتراء على الله. وقال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) (٥) ، أي : لا يهديه دون الله شيء ، وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى.
وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى ، تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد ، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلّا من تحت نظر الهوى ، فهو إذا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام.
ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة فلا كلام فيه هنا : وإن كان أهله قد زلوا أيضا بالابتداع فإنما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع ، ولذلك عذر الجميع قبل إرسال الرسل أعني : في خطئهم في التشريعات والعقليات ، حتى جاءت الرسل فلم يبق
__________________
(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٣.
(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٤.
(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٠.
(٤) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٣.
(٥) سورة : الجاثية ، الآية : ٢٣.