هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا لله حيث شرع مع الشارع ، وفتح للاختلاف بابا ، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك.
والخامس : أنه اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة ، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين. ألا ترى قول الله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (١).
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده ، وهو الحق والهوى ، وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك. وقال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ) (٢) ، فجعل الأمر محصورا بين أمرين ، اتباع الذكر ، واتباع الهوى ، وقال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (٣). وهي مثل ما قبلها ، وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه ، فلا أحد أضل منه.
وهذا شأن المبتدع ، فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله ، وهدى الله هو القرآن.
وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين :
أحدهما : أن يكون تابعا للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال ، كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه ، وهو شأن المؤمن التقي.
والآخر : أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول ، كان الأمر والنهي تابعين بالنسبة إليه أو غير تابعين وهو المذموم.
والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى.
وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه ، وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين :
__________________
(١) سورة : ص ، الآية : ٢٦.
(٢) سورة : الكهف ، الآية : ٢٨.
(٣) سورة : القصص ، الآية : ٥٠.