والثالث : أن المبتدع معاند للشرع ومشاقّ له ، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة ، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها ، وأن الشر في تعدّيها ـ إلى غير ذلك ، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم ، وأنه إنما أرسل الرسول صلىاللهعليهوسلم رحمة للعالمين. فالمبتدع رادّ لهذا كله ، فإنه يزعم أن ثمّ طرقا أخر ، ليس ما حصره الشارع بمحصور ، ولا ما عيّنه بمتعيّن ، كأن الشارع يعلم ، ونحن أيضا نعلم ، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع ، أنه علم ما لم يعلمه الشارع.
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع ، وإن كان غير مقصود ، فهو ضلال مبين.
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، إذ كتب له عديّ بن أرطاة يستشيره في بعض القدرية ، فكتب إليه :
(أما بعد : فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتّباع سنّة نبيّه صلىاللهعليهوسلم ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مئونته ، فعليك بلزوم السنّة ، فإن السنّة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق ، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم ، فإنهم على علم وقفوا ، وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى ، وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم ، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم ، ورغب بنفسه عنهم ، إنهم لهم السابقون ، فقد تكلموا منه بما يكفي ، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم مقصر ، وما فوقهم محسر ، لقد قصر عنهم آخرون فغلّوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم).
ثم ختم الكتاب بحكم مسألته.
فقوله : (فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها) فهو مقصود الاستشهاد.
والرابع : أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع ، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها ، وصار هو المنفرد بذلك ، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون ، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ، ولم يبق الخلاف بين الناس ، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهمالسلام.