وأما على القول الآخر فأحرى أن لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها ، لأنها إذ ذاك مجرد تعبد وإلزام من جهة الآمر للمأمور ، والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الأصول ، وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في أرفع مطالبه لا ثقة بها ، ويلقي من يده ما هو على ثقة منه.
والثاني : أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان ، لأن الله تعالى قال فيها : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١).
وفي حديث العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال : «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنّتي وسنّة الراشدين من بعدي» (٢) الحديث.
وثبت أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.
فإن كان كذلك ، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله : إن الشريعة لم تتم ، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها ، لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه ، لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلىاللهعليهوسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ دينا ، فلا يكون اليوم دينا.
__________________
(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.
(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الجمعة ، باب : تخفيف الصلاة والخطبة (الحديث : ٨٦٧). وأخرجه النسائي في كتاب : العيدين ، باب : كيف الخطبة (الحديث : ٣ / ١٨٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : لزوم السنة (رقم : ٤٦٠٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (الحديث : ٢٦٧٦ ، ٢٦٧٧). وأخرجه أحمد في المسند (٤ / ١٢٦ ، ١٢٧). وأخرجه ابن ماجه في المقدمة ، باب : اتباع سنة الخلفاء الراشدين (الحديث : ٤٣).